بورتري لــــ” مصباح” الغرفة المدهش|بقلم جمال قصودة
بورتري لــــ” مصباح” الغرفة المدهش
بقلم جمال قصودة
بي رغبة في الكتابة الليلة ،أبواب الذاكرة مشرعة ، النوافذ أيضا لم احكم غلقها منذ مدّة ، أم تراني عاجزا كل العجز عن غلقها ،ربما لكن احتمالات التأثر بالرطوبة واردة جدا ، قد يصيب الصدأ مقابضها ، و يعسر اثر ذلك الغلق ، فيصير بيت الذاكرة –عقلي- بلا باب و لا نافذة ، هو كذلك حتما ، الغوص في أعماق الذاكرة كحماقة التجديف ضد التيّار قد تهلك صاحبها لكن إدمان التورّط فيها يشرّع للمتعة القاتلة.
كنّا نحن – المدافعون عن حق الطلبة في السكن الجامعي – أخر من يلتحق بالمبيت ، يعني بعد شهرين على اقل تقدير من انطلاق السنة الجامعية ،لذلك كانت غرفنا دائما في الطابق الأخير- أي الطابق السادس –
الغرفة هذه السنة مختلفة تماما : يكفي أن أقول كانت تطلّ على جبل” بو قرنين “، و تطّل أيضا على مبيت الطالبات ، صارت المتعة متعتين : متعة الإطلالة على شموخ الجبل، و متعة محاولة انتهاك خصوصية الطالبات عبر استراق النظر -من خلال الشرفة- لبيوتهن ، و الحمد لله الغرفة أيضا بها مصباح كهربائي ، قد لا احتاجه هذه السنة لان شريك الغرفة مصباح في حدّ ذاته ، انّه الرفيق المناضل “مصباح الرحيلي” قد يطول الحديث عنه فيما بعد ، دعني اصف الغرفة أولا ،
هذه الغرفة كغيرها من غرف العمارة عدد 12 كان مبيتا للطلبة الإفريقيين في السنة السابقة ، و الحق يقال إن الغرفة و جدرانها ناصعة البياض من دون خربشات على عكس ما نفعله نحن ، لا يهم ستأتي الخربشات فيما بعد و لكن الغرفة بها رائحة كريهة ،قد لا تكون كريهة جدا فهي روائح بخورهم و طقوسهم الخاصة ، لكن هذه الروائح لا تشبهنا .
علينا أن نزيل هذه الروائح و أن نرتب البيت دون أن ننسى طقوسنا الخاصة و الخربشات على جدران الغرف صارت من طقوسنا ، خطّي كان رديئا ، لا يهم” محمود درويش” أيضا خطّه رديء، لكن هذا لن يحول دون الكتابة على الجدران، احد الزملاء تكفل بالكتابة على الباب من الخلف لذلك لا اذكر ما كتب ألان ، على الحائط المحاذي لسرير ” مصباح ” كتبت قصيدة ” دعد ” نص محكوم باليتم كالقصيد اليتيم للجميلة” دعد” لا اعلم ألان كيف لم أسجل هذا النص في دفاتري هي اللعنة حتما الفرق الوحيد أن يتيم “دعد ” بقي و إن قتل صاحبه ، لكن نصّي قضى عليه بالطلاء في السنوات الموالية و بقي صاحبه هذا يعيني إني يتيم “دعد” انأ أيضا ، الحقيقة اذكر التالي :
دعْدُ لا تحْسبِي أن خيليِ تهابَ
تعوّد حرفي ِ السّجال
تزوّد دومًا بنور الجنوُب
…………..
اذكر أني زرت الغرفة بعد إتمام سنوات الدراسة ، وجدت ساكنيها من الإفريقيين أيضا ، بعد أن قدمت لهم نفسي : أنا صاحب الغرفة السابق و صاحب الخربشات بادرني احدهم بالسؤال : هل آنت فلسطيني ؟ الخربشات تؤكد ذالك ؟ سؤال مربك حقا و النشوة تعرج بي إلى حدود “حيفا ” أجبت : نعم أنا فلسطيني ، و عراقي أيضا لكني تونسي …..
الخربشات كانت كثيرة لكني لا استحضرها ألان ، لكني قطعا لن انسى مقولة شهيرة كتبتها بخط يدي
“لا اضرب الفارس إلا وهو على صهوة الجواد ”
المقولة لقائلها لذلك كان التوقيع : ص.ح.ت ، يعني الشهيد البطل صدّام حسين التكريتي ،”مصباح” الغرفة كان مدهشا ، قطعا لا أتحدث عن المصباح الكهربائي لأني قلت منذ البداية قد لا احتاجه هذه السنة ، و لكني أتحدث عن ” مصباح الرحيلي ” ، قد يفهم البعض ألان سبب عشقي لمدينة ” الرديّف” ، ابن الرديّف هذا كان كغيره من أبناء الحوض المنجمي من ضحايا انبعاثات الفسفاط ، فكان طاقم أسنانه اسود بلون الفحم -هو غيّرها ألان مثلمّا غير” راشد الغنوشي” طاقم أسنانه- هذا لا يهم و لا يعنينا كثيرا لكنه كان مدهشا ،” مصباح” هذا نوره ينبعث من نقاء سريرته و صفائه و من ضعف حاله هكذا هم أبناء المفقرين ، مكمن الطيبة و الرجولة و المواقف الصادقة ، من دون مبالغة كان من أكثر الطلبة إشعاعا و شهرة ، بداية لسرعة حديثه و لهجته الأقرب للهجة الجزائرية منها للهجة التونسية لذلك كانت الاجتماعات العامة التي يدلو فيها بدلوه أكثر الاجتماعات نجاحا لمواقفه الصريحة و الصادقة و لحديثه باسم أبناء الشعب دونما خجل من الحديث عن حقيقة الطالبات اللواتي كنّ يستعرن من بعضهن نفس البنطال لقلة ما ما باليد أو الحديث عن حقيقة الطلبة الذين يتقاسمون السيجارة و الجميع هنا يذكر قولته الشهيرة ” قتلتم حلمي …. دخلت الجامعة من أجل إرسال “يمّة” إلى البيت الحرام ، قتلتم حلمي “، استطراد بسيط هنا تذكرت ألان خلفيّة كلمة” يمّة” التي وردت في قصيدي ” تونس عزيزة و غالية يا يمّة” ” ، منذ مدّة و أنا أقول نحن في الجنوب الشرقي لا نقول” يمّة” من أي نص غائب استوردتها ، ها أنا اعرف ألان استوردتها من صحبة” مصباح “،
أعود للحديث عن الغرفة التي كانت بلا قفل ، المفقرون و المعدمون لا يهابون السرقة فليس لهم ما يسرق غير بعض الكتب الثمينة و لكن النشّالين في العالم العربي لم يتعوّدوا سرقة الكتب ، هذا جيد على كل حال ، بوسعنا أن نخرج تاركين الغرفة مفتوحة بلا خوف ،
أكثر الأشياء المميزة لهذه الغرفة أن احد الجيران كان مخبرا أو لنقل الحقيقة كان بوليسا سياسيّا متمرسّا ، أينما ذهبت و في أي تظاهرة نقابية في الأجزاء الجامعية بتونس العاصمة لا تستغرب ان تجده أمامك ، فذاك جزء من عمله ، لن احقد عليه ألان ، لأنه لم يفعل شيء غير التقارير التي لا تغني و لا تشبع من جوع ،اذكر إننا ( أنا و مصباح) أصبنا بنوبة ضحك مزمنة لان النقاش ليلتها كان حادا جدا إذ تناول مسالة ” دور المثقف العضوي في مسار الثورة” انطلاقا من كتابات “غرامشي” ، المضحك قطعا أن النقاش طال إلى حدود الفجر ( أي ساعة الخامسة ) و جار الغرفة كان مجبرا أن يسهر معنا ، لقد كان ضحيّة لذلك لا احقد عليه ألان .
جربة ، تونس 14 ماي2013بقلم جمال قصودة
بي رغبة في الكتابة الليلة ،أبواب الذاكرة مشرعة ، النوافذ أيضا لم احكم غلقها منذ مدّة ، أم تراني عاجزا كل العجز عن غلقها ،ربما لكن احتمالات التأثر بالرطوبة واردة جدا ، قد يصيب الصدأ مقابضها ، و يعسر اثر ذلك الغلق ، فيصير بيت الذاكرة –عقلي- بلا باب و لا نافذة ، هو كذلك حتما ، الغوص في أعماق الذاكرة كحماقة التجديف ضد التيّار قد تهلك صاحبها لكن إدمان التورّط فيها يشرّع للمتعة القاتلة.
كنّا نحن – المدافعون عن حق الطلبة في السكن الجامعي – أخر من يلتحق بالمبيت ، يعني بعد شهرين على اقل تقدير من انطلاق السنة الجامعية ،لذلك كانت غرفنا دائما في الطابق الأخير- أي الطابق السادس –
الغرفة هذه السنة مختلفة تماما : يكفي أن أقول كانت تطلّ على جبل” بو قرنين “، و تطّل أيضا على مبيت الطالبات ، صارت المتعة متعتين : متعة الإطلالة على شموخ الجبل، و متعة محاولة انتهاك خصوصية الطالبات عبر استراق النظر -من خلال الشرفة- لبيوتهن ، و الحمد لله الغرفة أيضا بها مصباح كهربائي ، قد لا احتاجه هذه السنة لان شريك الغرفة مصباح في حدّ ذاته ، انّه الرفيق المناضل “مصباح الرحيلي” قد يطول الحديث عنه فيما بعد ، دعني اصف الغرفة أولا ،
هذه الغرفة كغيرها من غرف العمارة عدد 12 كان مبيتا للطلبة الإفريقيين في السنة السابقة ، و الحق يقال إن الغرفة و جدرانها ناصعة البياض من دون خربشات على عكس ما نفعله نحن ، لا يهم ستأتي الخربشات فيما بعد و لكن الغرفة بها رائحة كريهة ،قد لا تكون كريهة جدا فهي روائح بخورهم و طقوسهم الخاصة ، لكن هذه الروائح لا تشبهنا .
علينا أن نزيل هذه الروائح و أن نرتب البيت دون أن ننسى طقوسنا الخاصة و الخربشات على جدران الغرف صارت من طقوسنا ، خطّي كان رديئا ، لا يهم” محمود درويش” أيضا خطّه رديء، لكن هذا لن يحول دون الكتابة على الجدران، احد الزملاء تكفل بالكتابة على الباب من الخلف لذلك لا اذكر ما كتب ألان ، على الحائط المحاذي لسرير ” مصباح ” كتبت قصيدة ” دعد ” نص محكوم باليتم كالقصيد اليتيم للجميلة” دعد” لا اعلم ألان كيف لم أسجل هذا النص في دفاتري هي اللعنة حتما الفرق الوحيد أن يتيم “دعد ” بقي و إن قتل صاحبه ، لكن نصّي قضى عليه بالطلاء في السنوات الموالية و بقي صاحبه هذا يعيني إني يتيم “دعد” انأ أيضا ، الحقيقة اذكر التالي :
دعْدُ لا تحْسبِي أن خيليِ تهابَ
تعوّد حرفي ِ السّجال
تزوّد دومًا بنور الجنوُب
…………..
اذكر أني زرت الغرفة بعد إتمام سنوات الدراسة ، وجدت ساكنيها من الإفريقيين أيضا ، بعد أن قدمت لهم نفسي : أنا صاحب الغرفة السابق و صاحب الخربشات بادرني احدهم بالسؤال : هل آنت فلسطيني ؟ الخربشات تؤكد ذالك ؟ سؤال مربك حقا و النشوة تعرج بي إلى حدود “حيفا ” أجبت : نعم أنا فلسطيني ، و عراقي أيضا لكني تونسي …..
الخربشات كانت كثيرة لكني لا استحضرها ألان ، لكني قطعا لن انسى مقولة شهيرة كتبتها بخط يدي
“لا اضرب الفارس إلا وهو على صهوة الجواد ”
المقولة لقائلها لذلك كان التوقيع : ص.ح.ت ، يعني الشهيد البطل صدّام حسين التكريتي ،”مصباح” الغرفة كان مدهشا ، قطعا لا أتحدث عن المصباح الكهربائي لأني قلت منذ البداية قد لا احتاجه هذه السنة ، و لكني أتحدث عن ” مصباح الرحيلي ” ، قد يفهم البعض ألان سبب عشقي لمدينة ” الرديّف” ، ابن الرديّف هذا كان كغيره من أبناء الحوض المنجمي من ضحايا انبعاثات الفسفاط ، فكان طاقم أسنانه اسود بلون الفحم -هو غيّرها ألان مثلمّا غير” راشد الغنوشي” طاقم أسنانه- هذا لا يهم و لا يعنينا كثيرا لكنه كان مدهشا ،” مصباح” هذا نوره ينبعث من نقاء سريرته و صفائه و من ضعف حاله هكذا هم أبناء المفقرين ، مكمن الطيبة و الرجولة و المواقف الصادقة ، من دون مبالغة كان من أكثر الطلبة إشعاعا و شهرة ، بداية لسرعة حديثه و لهجته الأقرب للهجة الجزائرية منها للهجة التونسية لذلك كانت الاجتماعات العامة التي يدلو فيها بدلوه أكثر الاجتماعات نجاحا لمواقفه الصريحة و الصادقة و لحديثه باسم أبناء الشعب دونما خجل من الحديث عن حقيقة الطالبات اللواتي كنّ يستعرن من بعضهن نفس البنطال لقلة ما ما باليد أو الحديث عن حقيقة الطلبة الذين يتقاسمون السيجارة و الجميع هنا يذكر قولته الشهيرة ” قتلتم حلمي …. دخلت الجامعة من أجل إرسال “يمّة” إلى البيت الحرام ، قتلتم حلمي “، استطراد بسيط هنا تذكرت ألان خلفيّة كلمة” يمّة” التي وردت في قصيدي ” تونس عزيزة و غالية يا يمّة” ” ، منذ مدّة و أنا أقول نحن في الجنوب الشرقي لا نقول” يمّة” من أي نص غائب استوردتها ، ها أنا اعرف ألان استوردتها من صحبة” مصباح “،
أعود للحديث عن الغرفة التي كانت بلا قفل ، المفقرون و المعدمون لا يهابون السرقة فليس لهم ما يسرق غير بعض الكتب الثمينة و لكن النشّالين في العالم العربي لم يتعوّدوا سرقة الكتب ، هذا جيد على كل حال ، بوسعنا أن نخرج تاركين الغرفة مفتوحة بلا خوف ،
أكثر الأشياء المميزة لهذه الغرفة أن احد الجيران كان مخبرا أو لنقل الحقيقة كان بوليسا سياسيّا متمرسّا ، أينما ذهبت و في أي تظاهرة نقابية في الأجزاء الجامعية بتونس العاصمة لا تستغرب ان تجده أمامك ، فذاك جزء من عمله ، لن احقد عليه ألان ، لأنه لم يفعل شيء غير التقارير التي لا تغني و لا تشبع من جوع ،اذكر إننا ( أنا و مصباح) أصبنا بنوبة ضحك مزمنة لان النقاش ليلتها كان حادا جدا إذ تناول مسالة ” دور المثقف العضوي في مسار الثورة” انطلاقا من كتابات “غرامشي” ، المضحك قطعا أن النقاش طال إلى حدود الفجر ( أي ساعة الخامسة ) و جار الغرفة كان مجبرا أن يسهر معنا ، لقد كان ضحيّة لذلك لا احقد عليه ألان .
0 commentaires:
إرسال تعليق