حوار مع الروائي نبيل قدّيش : الكتابة تمرين يوميّ شاق
حاوره :جمال قصودة
لئن كان النتاج الأوّل والأهم للحضارة العربيّة هو الشعر كمنتج ابداعي طغى على المدونة العربيّة منذ الجاهلية الى عصرنا الحاضر ، الا ان السنوات الأخيرة شهدت تراجعا للشعر أمام الرواية والسرد،
الرواية كجنس أدبي قد تكون طارئة على الحضارة العربية، لكنها الأهم في السنوات الأخيرة لأسباب كثيرة منها التوجه العام نحو دعم الرواية عبر عدد هام من المسابقات التي فتحت آفاقا أمام كتّابها ليحلّقوا بعيدا، والرواية هي جنس أدبي “محصّن ” : لما تتطلب كتابتها من جهد وتفرّغ وقدرة على التشكيل والتخيّل وخاصة طول النفس ، على عكس الشعر الذي صار حمارا تركبه الخاصة والعامة فأدعياؤه كثر والخوف كل الخوف على الشّعر من هؤلاء ، أما الرواية فبرغم تفاوت القيمة الجمالية لكتّابها ولنتاجهم إلا اني اعتقد جازما أنها الاكثر تحصينا فلا أحد من التافهين يستطيع التطاول عليها او التفكير اصلا في كتابة رواية لعجزهم الفنّي ولما تتطلبه من جهد .” ان الرواية أكثر صعوبة و تعقيدا من ” الشعر” لان لها تأثيرا كبيرا على المجتمع “([1])
الرواية كغيرها من الاجناس الابداعية والفنيّة أساسها التخيّل والمخيال لكنها تتطلب مقدرة عجيبة على استعراض التفاصيل القادرة على العروج بنا نحو عوالم متخيّلة على واقعيتها أو انطلاقها من الواقع هي مشاهد متخيلة متسربلة في الغياب برغم حضورنا فيها وهذا يؤكده ميلان كونديرا في قوله :” الروايات تمنحنا فرصة للهروب الخيالي وتقتلعنا من حياة لم تكن تمنحنا أي إحساس بالرضا.”
موقع أنتلجنسيا للثقافة والفكر الحر يستوقف أحد أهم كتّاب الرواية في تونس من أجل الاطلالة على عوالمه ومناخاته وبهدف سرد مسيرة تجربته،
-1-القاص و الروائي التونسي نبيل قدّيش ،كيف يمكن ان تقدّم نفسك للقرّاء ؟
أنا من جيل لا يتيح للأطفال الكلام، سوى في مناسبات محدّدة ونادرة للغاية، وبعد أن يطلبوا الإذن طبعا. وإن تكلّموا فلا يقع الاستماع لهم كما يجب. هذا ما يجعل أحاديث بعضنا صعبة، أحيانا متردّدة، أحيانا مسرعة، كما لو كنّا نخشى المقاطعة. من دون شكّ هذه الرغبة هي التي حملتني على الكتابة، مثل الكثيرين في مرحلة مباشرة بعد الطفولة. كنت آمل أن يقرأني البالغون، فيكونون بالتالي مجبرين على سماعي دون أن يقاطعوني، وسيعلمون مرّة واحدة ماذا في قلبي. فيما بعد، تطوّرت رغبة الكتابة عندي، وأصبحت تسعى لفرض الصوت هذه المرّة، والصدح عاليا وبقوّة بما أريد قوله وأشعر به وأحسّه. غير أنّه وبمرور السنين، وإذا كنت شعرت بالرضا على الآخر، الذي صار ينتبه إليّ ويسمعني، فإنني لم أشعر قطّ بالرضا على نفسي مع كلّ كتاب أنهيه، فأبحث على التوازن المفقود والمستحيل في الكتاب الذي يليه. وهكذا تمرّ السنين ويتحدّث القرّاء عن أعمال، لكنّني أشعر في قرارة نفسي أنّ ذلك لن يكون سوى هروبا إلى الأمام من ذلك الصوت، صوتي الخاصّ بي الذي كان في يوم ما مجرّد كائن ضعيف وبائس فأصبح غولا لا أستطيع مقارعته.
-2-نبيل قديش ،سطع نجمك بعد الانتفاضة التي عاشها شعبنا ، اين كنت قبلها وما سرّ هذا التالق؟
كنت موجودا في حالة كمون ربّما. بداياتي لم تكن بعد الثورة أو التي أصطلح على تسميتها انتفاضة، كما يذهب لظنّ البعض. بدأت مبكّرا بكتابة القصّة القصيرة. لا يعلم الكثيرون ربّما أنّ أوّل نصّ كتبته ” الثلاثاء الأسود” تُوّج بجائزة القلم الذهبيّ في المهرجان الوطني لأدب الشباب ببن عروس سنة 1999، ثمّ تتالت النصوص. صحيح أنّ بروزي ككاتب رواية جاء بعض الثورة، وضمن ذلك المدّ والطفرة الإبداعيين الذين غذّاهما مناخ الحريّة التي طرأ فجأة علينا كتونسيين. كلّنا يتذكّر كيف برزت الورشات السرديّة والصالونات الأدبية حينها كالفطر. برزت نصوص جادّة وواعدة من هنا وهناك. ونشط النشر، الذي كان قبل ذلك خجولا، ومحتشما جدّا. لكن قبل ذلك بسنوات كثيرة، كنت مثل كلّ المراهقين، أكتب وأخبئ نصوصا سريّة وحميمة عن أعين الكبار، في انتظار أن تكتسب مشروعية ما، لتطفو على السطح، إلى أن أتى ذلك اليوم الذي كتب لي فيه أستاذ العربية ” سي محمّد عليّ الميساوي” على ورقة إمتحان التحرير الأدبي، مثلما أذكر بضوح : “ملامح الأدبيّة، واصل”. من هناك كانت البداية، وكأنّما جرى تعميدي ذلك اليوم، من راهب الكتابة، لأنطلق في تجربة وجودية جديدة بكل الثقة الممكنة.
-3- بنفس سياق الحديث عن التالق، اكثر من جائزة نلتها في السنوات الاخيرة ،لو تسترد اهم التتويجات التي حققتها و ماذا اضافت لك و لتجربتك ؟
أعتبر نفسي محظوظا لكون كلّ عمل جديد ، يتوّج على صعيد ما. مجموعتي الأولى ” العبث مع نيشته” نالت جائزة تقديريّة في مسابقة الكتام آر لسنة 2014. بعد ذلك نشرت روايتي الأولى ” زهرة عبّاد الشمس” ونالت جائزة الإكتشاف في مسابقة الكومار الذهبي للرواية العربيّة سنة 2015. أخيرا حصدت روايتي الثانية ” شارلي” المركز الثاني في مسابقة الإبداع الأدبي صنف الرواية لمعرض تونس الدّولي للكتاب، وكانت قاب أو قوسين أو أدنى لتكون هي المتوّجة لولا بعض الظروف الغامضة التي حفّت بإعلان الفائزين. أنا لا أكتب للجوائز ولا أقع في فخاخها، ولست صائد جوائز. لست شوفينيّا كي أقول أن الجوائز لا تعنيني، لكنّني لا أكتب لمواسم صيد الجوائز.
-4- “تكاد القصة اليوم في الغرب تستأثر بالأدب المنثور كله، وهي ولا ريب تتقدم كل ما سواها من صور هذا الأدب… بل إن كثيرين يعترفون بأن القصة الروسية في العصر الأخير منذ تولاها دستويفسكي، ترجنيف، وتلستوي، كانت ذات أثر بالغ في توجيه الحياة الأوروبية كلها”([2])، هل حققت الرواية العربية ما حققته في الغرب وهل تضطلع بنفس المهمة ؟
في الحقيقة يعدّ حصول نجيب محفوظ، الكاتب العربي الفذّ على نوبل للآداب عن مجمل أعماله الأدبيّة سنة 1988 نقلة نوعيّة وبداية التأريخ الحقيقي للرواية العربيّة والأدب العربي بصفة عامّة، ذلك الأدب الذي همّشت عطاءاته، وأهملت إبداعاته من قبل الأمم المنتصرة. الرواية الغربيّة الحديثة بدأت مبكّرا مع “سرفينتس” بروايته الشهيرة ” دون كيخوته”. لم تكن مجرّد رواية بل هي رواية مؤسسة أعطت إشارة البداية للرواية الحديثة، وأنهت عصر رواية الفروسيّة قبل أربعمائة سنة من الآن أو ما يزيد. هل هناك عمل روائيّ عربي بقيمة ” دون كيخوته”. هذا سؤال لست مخوّلا للإجابة عنه، بل أترك للنقّاد حصريّة التمحيص فيه. لكن تجربتي البسيطة تجعلني أسرد ما تجود به ذاكرتي من أعمال روائية جديرة بالذكر: أعمال طه حسين، ونجيب محفوظ، ونوال السعداوي والطيّب صالح، ومحمود الغيطاني، والمسعدي، والبشير خريّف، وعبد الرحمان منيف، والقائمة تطول.
-5- “إن الرواية تنمو وتزدهر حين تعم المأساة، ويزيد الظلم، ويقوى التناقض، في تلك اللحظات التاريخية الهامة تصبح الرواية لسان الناس، والمرآة التي يرون فيها أنفسهم”([3])، هل توافق عبد الرحمان منيف فيما ذهب إليه؟ وهل هذا ما يفسّر انتشار وتميز الرواية العربية؟
لقد شاركت الرواية في التعبير عن الذات العربيّة المقاومة حين تعمّ المأساة، ويزيد الظلم ويقوى التناقض. وقد ادعى البعض أن نشأة الفن الروائي، بشكله المعاصر، لم ينضج وربما لم ينشأ أصلا، إلا بوازع المقاومة وقد يتضح هذا الأمر كثيراً عند متابعة نشأة الرواية في الشمال الإفريقى، ومتابعة الروايات المصرية خلال النصف الأول من القرن العشرين فنجد أدباء أمثال جرجي زيدان لم يكتب إلا من هذا المنطلق في كل أعماله وغيره كثير من الروايات التي تابعت الأحداث والبحث عن الهوية منها رواية اورشليم الجديدة، ورواية عذراء دنشواي لمحمود طاهر حقي وغيرهم. لقد عبرت الرواية العربية عن مفردات المقاومة طوال تاريخها القصير من خلال بعدين رئيسيين أولاً: البعد المكاني متمثلا في الأرض والتي حملتها الرواية دلالات ومعان تتجاوز ملامحها المادية لتكتسب بعدا روحيا وقيما عليا. أما البعد الثاني فيتمثل في البعد التراثي والتاريخي وعندما نتحدث عن التجربة الحربية في الرواية العربية، يجب التفريق بين مصطلحين هما: أدب المقاومة وأدب الحرب حيث نلاحظ استعمال احدهما مكان الآخر للتدليل على المعنى نفسه فمصطلح أدب المقاومة أكثر شمولاً وتعبيرا من مصطلح أدب الحرب بخاصة في ما يتعلق بما تعيشه الثقافة العربية وما يعانيه الواقع العربي الآن من انقلابات إيديولوجية وفكرية.
-6-قد تكون الاول في تونس الفائز بمنحة دعم افاق الرواية ؟ الا يفترض ان وزارة الثقافة في تونس تحذو حذو هذه الافكار الداعمة للمبدع والابداع ؟
هي تجربة جديدة أخوض غمارها عن قريب. فقد فاز مشروع روايتي الجديدة مع سبعة مشاركين عرب، بمنحة دفع آفاق. تم اختيار مشروعي من ضمن 235 مترشحا من كامل المنطقة العربيّة. لا أخفيك سرّا أن الرواية مختلفة جدّا عما كتبته سابقا. والدليل أنني إلى حدّ الآن لم أحسم في عنوانها. هي رواية عن اللهث في إثر الزمن الضائع. رواية مناوشة، منغصّة، قلقة، مرتابة، تحاول تفكيك الحياة بكلّ تعقيداتها وألغازها الأبديّة. ثم تحاول رأبها دون جدوى.رحلة في عمق الزمن البروستي حاضرا وماضيا ومستقبلا. كلّ ما هو بسيط في هذه الرواية يغدو عظيما، تتحوّل فيه الصدف العابرة إلى أحداث هامّة. ستكون الرواية منتهية حسب برنامج آفاق منتصف 2017 ، بعد ورشات الحوار، والنقاش التي سيشرف عليها الروائي جبور الدويهي، وستكلل بنشرها في دار الساقي حسب العقد المبرم مع آفاق.
-7- نبيل قديش ، هل تشغله جائز البوكر ؟
لم لا. تبقى “البوكر” أشهر وأغلى الجوائز الأدبية العربيّة. فهي تفتح على الحائز عليها أبواب الشهرة على مصراعيها، ناهيك عن الترجمة. ماذا كان مثلا كتّاب مثل بهاء طاهر، وأحمد السعداوي، وسعود السنعوسي وغيرهم قبل البوكر؟ببساطة إنّها جائزة خاصّة جدّا، بمعايير خاصّة جدّا أيضا، ما زالت ولا تزال تثير حولها الكثير من اللّغط. هي التي خطب ودّها الصغار والكبار، ونالها صغار دون كبار.
-8- الرواية لما تحضاه من دعم و جوائز صارت مغرية الحقيقة، وهذا ما يفسر هجرة الشعراء باتجاهها، هل تراهم قد نجحوا فيها ؟
بالتأكيد هناك أسماء تونسيّة على الأقلّ أستحضرها الآن، خاضت غمار الرواية والسرد عموما ونجحت فيه، على غرار الكتاب شفيق طارقي، والشاعر المنصف الوهايبي، وغيرهما كثر.
-9- معضلة النشر ايضا غير مطروحة بالنسبة للرواية مقارنة بالشعر الذي فقد بريقه وأغلب دور النشر تتحاشى نشره على كاهلها، هل توافقني الرأي وهل تحدثنا عن منشوراتك؟
عادة ما تكون البدايات صعبة. قلّة قليلة من دور النشر الكبرى تراهن على الأصوات الجديدة، وإن فعلت فمع كتّاب يمثلون فلتات عصورهم. أمّا دور النشر الصغرى فهي تطلب مقابل مادّي حتى تنشر لك. وبالتالي فإنّ الكاتب واقع بين نارين. النشر في تونس معضلة أخرى فوق كلّ المعضلات، لأنّ ريح التغيير التي هبّت على الشرق لم تصله. هناك دور نشر تسمّى نفسها كبيرة، وهي كبيرة فعلا في التنكيل بالكاتب، وجعله يشعر بأنّه متسوّل بائس على أبوابها، من دونها سيظلّ يطرق باب الإبداع ولا يلجه أبدا. الحديث عن النشر ذو شجن، وربّما لن تكون هذه الورقة ولا الكثير منها كافيا إلى توصيف معضلة النشر في تونس.
-10- هل الكتابة فعل يومي بالنسبة لنبيل قديش ، وماذا تعني له، وهل له عيش من دونها ؟
الكتابة تمرين يوميّ شاق، يتطلّب استعدادات بدنيّة وذهنيّة هائلة، لا تختلف كثيرا عن تمرين العدو على المسافات كلّ يوم. أقرأ يوميّا وألتهم روايات، وأرقن صفحات في مخطوطة روايتي إن حدث وكنت أشتغل على رواية بمعدّل أربع إلى خمس ساعات في اليوم. هناك فترات متباعدة، أكون ضجرا وسئما فأفضّل الابتعاد عن كلّ ما له علاقة بالأدب، لكنني سرعان ما أعود متحفّزا لتعويض ما فاتني منها. الكتابة هي الشيء الذي لولاه ما كنت أطيق العيش في هذا العالم.
-11- كلمة الختام
أختم بقولة شهيرة للكاتب اليابانيّ “هاروكي موراكامي” في حوار أجرته معه الصحفيّة “إيما بروكس” في معرض حديثه عن الرواية والكتابة، قال: “لست سوى صبيّ يعرف الكتابة”
ــــــــــــــــــــــــــ
[2] -هيكل ( محمد حسنين ) ،ثورة الادب ،ص 73
[3] -منيف ( عبد الرحمان ) ، الكاتب و المنفى ،ص 41
0 commentaires:
إرسال تعليق