المقاومة والثورة|زهير إسماعيل
المقاومة بين الوظيفيّة والعضويّة
وكانت الثورة
تأسيس الموقف
المقاومة قيمة أخلاقيّة وفعل نضالي في مواجهة ما يقوم مانعا من الاختيار الحرّ في حياة الفرد والجماعة. ولذلك كانت المقاومة -في تجارب الشعوب- مقدّمة الثورة وشرطها. غير أن ما نشهده في المجال العربي يبدو مثيرا، فقد تجاورت المقاومة والثورة وتداخل زمناهما واضطربت الصورة.
فكان أنْ فُكّ ارتباطهما وتقابلت مآلاتهما، ممّا حدا ببعض مَن ركنوا إلى التفسير التآمري إلى وضع الثورة في المجال العربي موضع تساؤل، ولا حرج من إدراجها ضمن لعبة للقوى الدوليّة. ولم يبق إلا القول بأنّ احتراق البوعزيزي قدر استخباراتيّ لا أكثر.
المقاومة بين الوظيفيّة والعضويّة
نستعير من المفكر عبد الوهاب المسيري -رحمه الله- مفهوم الجماعة الوظيفية، وقد كان اختبره في دراسة الظاهرة الصهيونية، ولم نعثر -فيما قرأنا له- على مقابل لهذا المفهوم. فاقترحنا الجماعة العضوية قبيلا له. ويبدو ما اقترحنا ضروريا وإلا جاز أن تنعت كل جماعة -أيا كان حجمها- بالوظيفية، فيفقد المفهوم حدوده وإجرائيته ومن ثم نجاعته.
فتكون المقاومة العضويّة هي التي تستمد شروط فعلها واستمرارها من بيئتها وإن قلّ فعلها. والمقاومة الوظيفيّة هي التي تستمد شروط فعلها واستمرارها من خارج مجالها الحيويّ، وإن عظم أثرُها.
"
المقاومة العضويّة هي التي تستمد شروط فعلها واستمرارها من بيئتها وإن قلّ فعلها. والمقاومة الوظيفيّة هي التي تستمد شروط فعلها واستمرارها من خارج مجالها الحيوي وإن عظم أثرُها
"
كانت المقاومة في المجال العربي صورة من فرز على قاعدة الحريّة امتدّ من تونس (حركة 18 أكتوبر)، مرورا بمصر (حركة كفاية)، وسوريّة (ربيع دمشق)، وانتهاء بلبنان وفلسطين.
ولئن كانت المقاومة في مجمل الأقطار العربية سياسية مدنية فإنّها في لبنان وفلسطين كانت عسكرية، تنشد إقامة توازن رعب مع العدوّ، وكان لها في لبنان جولات حررت فيها الأرض بقوة السلاح، وهزت مؤسسة العدوّ العسكرية شرط وجوده الأساسي. وتمكنت في الحرب على غزة من أن تمنع العدوّ من تحقيق أهدافه المعلنة والخفية.
كانت المقاومة في غزة تتحرك بحرية بين أهلها بالرغم من الحصار المطبق من الخارج، في حين بدا حزب الله محاصرا بالحالة الطائفية، في الداخل، بالرغم من حرية النفاذ إلى الخارج. ولقد نبهَنا موقف حزب الله المتردد من المقاومة في العراق حينما كانت في أوجها إلى وظيفية مقاومته، ومدى ارتهانها سياسيا وأخلاقيا إلى مصلحة الحليف الإيراني.
ولئن كان بوسعنا أن نتفهم دوران إيران مع مصلحتها في سياق صراع النفوذ حول المجال العربي الخالي من أي مشروع سياسي موحد، فإنه لا يمكن أن نتفهم تبعية حزب الله للموقف الإيراني، وهو لا يفتأ يذكّر بأن مقاومته لتحرير الأمة.
وإذا كان بعضٌ من النظام العربي قد أدار ظهره لفلسطين وقدْسِها وعقد الصلح مع المحتل في ملابسات معلومة، فلا شيء يضمن أن تكون إيران إلى جانب الحق الفلسطيني في كل الأحوال. وليس في القول بـ"وظيفية" مقاومة حزب الله تقليلٌ من بلائه في مقاومة المحتل وجهاده لتحرير الأرض، وإنما لتمييزها عن مقاومة ترتبط عضويا بالمجال العربي ومنه تستمد شرط وجودها واستمرارها.
ولذلك قدّرنا أن المقاومة في فلسطين، على الرغم من ارتباطاتها المتينة بقوى الممانعة في المنطقة وعلى رأسها إيران، فإنها لم تفقد طبيعتها العضوية. فصارت المقاومة صنفين: مقاومة وظيفية يمثلها حزب الله، ولا يخرجها من وظيفيتها إلا اتجاهُها إلى التحرر التدريجي من شروط صراع النفوذ الإقليمي، والتجذر في محيطها اللبناني. ومقاومة عضوية تمثلها حماس، قابلة لأن تصبح وظيفية إذا لم توازن بين تحالفاتها وشروط وجودها واستمرارها.
وتأتي الثورة حدثا لا عهد للمجال العربي به، فكيف كان أثرها على المقاومة الوظيفية منها والعضوية؟
وكانت الثورة
جاءت الثورة تتويجا لما كان من فرز على قاعدة الحرية شقّ المجال العربي بدرجات متفاوتة، تجاوزا لفرز كان أساسه الأيديولوجيا، وتتويجا لثقافة المقاومة التي نجحت قواها الممثلة في كسر شوكة العدو في لبنان وفلسطين، واختراق النظام الإقليمي الذي شهد ظهور قوة جديدة بين الممانعة والمساومة، متمثلة في قطر وتركيا. تنتمي الأولى إلى المجال العربي وتجاورُه الثانية لاعبا مهمّا فيه، قبل أن يستعيد توازنه بتوحده تدريجيا.
جاءت الثورة في هذه المرحلة الدقيقة وكان انتشارها السريع من تونس إلى مصر وليبيا واليمن، وصداها الكبير في باقي الأقطار يشير إلى أنها عميقة الجذور في المجال العربي. وهي من جانب آخر حركة احتجاج سياسية اجتماعية جذرية في وجه نظام عربي جمع الاستبداد إلى الفساد، وعمل على توريثهما. وقد كان له هذا في سوريا باسم شرعية صمود وتصدٍّ موهومة، وفي المغرب والأردن باسم ملَكية تستند إلى شرعية دينية تاريخية مزعومة.
كان اندلاع الثورة في ليبيا واتساع رقعتها بسرعة قياسية مفاجئا لما مثله من تحدٍّ بطولي لأعلى سقف للعنف في النظام العربي. ومشجعا لطالبي الحرية في السياقات المشابهة على النهوض في وجه قمع تأبد حتّى صار درؤه أمرا غير مفكر فيه.
وكانت الانطلاقة في سوريا نموذجا أوفى لما بلغه الانتصار على الخوف من عنفوان. وكان التقابل في السياق السوري بين المقاومة والثورة بيّنا. وبالرغم من أن النظام السوري لم يكن أكثر من مستظل بسقف المقاومة إلا أن السياق العربي وصراع النفوذ الإقليمي والدولي جعلا منه ثالثة الأثافي فيها إلى جانب إيران وحزب الله. ولقد كان حزب الله، قبل الثورة العربية، يلمّح في خطابه السياسي إلى مواجهة لا رادّ لها مع إسرائيل قد تكون حاسمة.
"
كان قانون الثورة كليّا في المجال العربي لا يميّز بين استبداد واستبداد، وليس في وارده أن يُمهل نظاما فاسدا مستبدا وإن تعلق بأستار المقاومة
"
كان قانون الثورة كليّا في المجال العربي لا يميّز بين استبداد واستبداد، وليس في وارده أن يمهل نظاما فاسدا مستبدا وإن تعلق بأستار المقاومة. لذلك لم يكن من الأخلاق في شيء أن يُطلب من الشعب السوري المظلوم أن يؤجل حركته نحو الحرية تحت ذريعة المحافظة على أساس المقاومة.
ومن المؤسف أن أغلب أهل المقاومة من المناضلين والمثقفين تعثروا عند الحالة السورية؛ فمنهم من حصر التعارض بين الثورة والمقاومة في المثال السوري، ومنهم من أدرك أن الثورة حالة عامة في المجال العربي، تُتبنى جملة أو تُترك جملة، فلم يدخر بعضُهم الجهد في الإقناع باندراج الثورة ضمن برنامج للقوى الدولية لإعادة إنتاج المنطقة بعد انتهاء صلاحية جيل كامل من الأنظمة التابعة. وكثيرا ما يُحتجّ بالمثال الليبي على سلامة وجهة النظر هذه بعد تدخل النيتو.
ولعل أكثر ما جسد هذا الاضطراب آخر حديث لسماحة الأمين العام لحزب الله، وهو من هو صدقا وقوة حجة ووضوح بيان. كانت مرافعته عن المقاومة من خلال الحالة السورية ضعيفة، بدت فيها صورة المقاومة لأول مرة باهتة.
وكان عرضُه متهافتا يتنكر آخرُه لأوله، ولم يُشر ولو على سبيل الأسف إلى ما طال الأحرار في سوريا من تنكيل وقتل، واكتفى بالدعوة إلى جلوس الجلاد المتجهم والضحية النازفة إلى حوار للإصلاح السياسي.
إنه يعيد إنتاج خطاب النظام السوري، ويضع المقاومة في موضع لا يليق بها. إننا أمام أداء سياسي يُبرز موقفا لأهل المقاومة من الحرية غير مسبوق، ويجلو أزمة سياسية أخلاقية ترتقي إلى مرتبة الفتنة كما استقرت في وجدان الأمة.
ومن اللافت أن يكون الموقف الإيراني على لسان الرئيس نجاد المغادر -حين ذكّر بحق الشعب السوري في الحرية والكرامة- أكثر إنصافا وأقل انسجاما مع النظام السوري. ولا غرابة، فمن أول أمر الدنيا كان الفرع دائما يعتقد أن إثبات جدارته لا يكون إلا بإظهار حرصه على مصلحة الأصل أكثر من الأصل نفسه.
تأسيس الموقف
إذا كانت الغاية التي تجري إليها المقاومة والثورة هي تأسيس الحرية. فكيف نفسّر التعارض بينهما؟
تبدو وجهة النظر التي تضع الثورات في سياق مؤامرة واسعةً متهافتةً، دون أن ننفي سعي كثير من القوى الدولية إلى إجهاض الثورة الفتية بوسائل تنسجم مع خصوصية الثورة في كل قطر.
تيسّر ثنائية الوظيفي/العضوي تأسيس التعارض بين الثورة والمقاومة. فمقاومة حزب الله لم تنجح في نزع صفتها الوظيفية، ويعود الأمر إلى عدة أسباب أهمها ولاء حزب الله المرجعي، وحال المجال العربي الذي تأجل توحده خلافا للمجالين الإيراني والتركي.
ويبدو توحيد المجال العربي من غايات ثورة الكرامة. ولسنا نشير البتة إلى دولة الوحدة من منظور الفكر القومي العربي المتأثر بمفهوم الدولة القومية كما استقرت في أوروبا في القرن السابع عشر نتيجة الإصلاحين الديني والفلسفي، بقدر ما ننبّه على أنّ الوحدة، من وجهة نظرنا، تبدأ بمستويات من التبادل الاقتصادي والتواصل الثقافي والتنسيق السياسي، حالت دونها أنظمة الفساد والاستبداد والتبعية، ستفضي بترسخها، إلى قيام كيان سياسي ثقافي اقتصادي إقليمي.
تُمثل المقاومة بموقفها الحالي من ثورة الحرية في سوريا عقبة في سبيل اتجاه المجال العربي نحو التوحد، وتبقى امتدادا للنفوذ الإقليمي، وهذا حال حزب الله والجهاد الإسلامي والفصائل المرتبطة بسوريا، وتبدو حماس بمقاومتها مرشحة لأن تلتحق بوظيفية حزب الله أمام موقفها غير الواضح من ثورة الحرية في سوريا، ولا عذر لها في عجزها عن فكّ الارتباط مع نظام يقتل شعبه. ولم تكن مصالحتها مع فريق أوسلو إلا مؤشرا على قراءة غير دقيقة للثورة في المجال العربي. وبدا التقاء الفريقين تقاطعا بين سلطة بائسة تخشى العدم ومقاومة حائرة تخشى الهرم، إذ لا معنى لاجتماع مقاوم بمساوم هو في حُكم النظام العربي الذي جاءت الثورة لكنسه.
تكتسي هذه المرحلة الانتقالية أهمية قصوى، ذلك لأن الثورة المندلعة في المجال العربي مختلفة من جهة طبيعتها ومداها، فمنها السلمية التي نجحت في إسقاط رأس النظام وتسعى بصعوبة إلى تأسيس الحرية، مثلما هو الحال في تونس ومصر.
ومنها التي انطلقت سلمية ثم حملت السلاح مكرَهة، كالثورة في ليبيا التي هزمت القذافي واحتلت الساحة الخضراء في قلب طرابلس، في الأسبوع الأول من اندلاعها، فلجأ إلى السلاح لتبرير سحقها أو تحويلها إلى حرب أهلية، لكن عزيمة الثوار سطرتها حربَ تحريرٍ شعبيةً، أربكت النيتو وانتصرت على أعلى سقف للعنف في النظام العربي، وشقت طريقا ثالثا بين الاستبداد والاستعمار.
ومنها التي نجحت في المحافظة على وجهها السلمي، بالرغم من القتل بالسلاح الثقيل. فبدت الملايين في الساحات في اليمن مدهشة، والمظاهرات الشعبية المواجهة للدبابات في سوريا مذهلة.
"
أهمّ ما يمكن الوقوف عنده في هذه المرحلة الانتقالية هو أن الثورة التي لم تضع أوزارها لم تفرز بعدُ نظامها السياسي الذي سيكون أساسه التعاقدَ، بعد أن كان أساس النظام المنهار الغلبة
"
ولعل أهمّ ما يمكن الوقوف عنده في هذه المرحلة الانتقاليّة هو أن الثورة التي لم تضع أوزارها لم تفرز بعدُ نظامها السياسي الذي سيكون أساسه التعاقدَ، بعد أن كان أساس النظام المنهار الغلبة. وسيكون هذا النظام الجديد عامل توحيد للمجال العربي، ويكون انبناء هذا المجال سياسيا مقدمة لتوازن إقليمي أطرافه: العرب، والفرس، والأتراك، مما سيدفع القوى الدولية وعلى رأسها الولايات المتحدة إلى الارتداد إلى مجالاتها الحيوية التاريخية. ويكون ارتداد الولايات المتحدة إلى الأطلسي، بالنسبة إلى الكيان الصهيوني، زوالَ شرط وجوده.
نعيش -في المجال العربي- منعرجا مهمّا ومرحلة دقيقة نسمّيها مرحلة إسقاط النظام، ستكون مهمّتها الأساسية التخلص من بقايا الأنظمة الأيديولوجية التي قامت في خمسينيات القرن الماضي في المجال العربي، وتأسيس المجال السياسي الجديد: العدالة والتنمية.
وستختفي من القاموس السياسي في المدى المنظور عبارة إسقاط النظام، لأنه لن يوجد نظام بالمعنى الذي نعرفه اليوم لكي يتمّ إسقاطه، وإنما قد تسقط حكومة أو تحالف في إطار النظام الجديد والتداول السلمي على السلطة. وإن ما يقوي الأمل في أن ترسو الثورة عند هذه الغاية ما صار أشبه بالقانون وقوامه، أنه لا نجاة لنظام مستبد هبت الجماهير في وجهه مطالبة بحريتها. ولنا في بن علي الهارب، ومبارك المنهار والقذافي الساقط وصالح المحترق خير دليل.
فليس أمام المقاومة التي كانت نجاحاتها في زمن الإحباط من أسباب تأجيج الأمل في النهوض، إلا أن تعدّل بوصلتها على ضوء الثورة، قبل فوات الأوان، بالرغم من خصوصية الحالة السورية وتشعّبها عربيا وإقليميا.
وكانت الثورة
تأسيس الموقف
المقاومة قيمة أخلاقيّة وفعل نضالي في مواجهة ما يقوم مانعا من الاختيار الحرّ في حياة الفرد والجماعة. ولذلك كانت المقاومة -في تجارب الشعوب- مقدّمة الثورة وشرطها. غير أن ما نشهده في المجال العربي يبدو مثيرا، فقد تجاورت المقاومة والثورة وتداخل زمناهما واضطربت الصورة.
فكان أنْ فُكّ ارتباطهما وتقابلت مآلاتهما، ممّا حدا ببعض مَن ركنوا إلى التفسير التآمري إلى وضع الثورة في المجال العربي موضع تساؤل، ولا حرج من إدراجها ضمن لعبة للقوى الدوليّة. ولم يبق إلا القول بأنّ احتراق البوعزيزي قدر استخباراتيّ لا أكثر.
المقاومة بين الوظيفيّة والعضويّة
نستعير من المفكر عبد الوهاب المسيري -رحمه الله- مفهوم الجماعة الوظيفية، وقد كان اختبره في دراسة الظاهرة الصهيونية، ولم نعثر -فيما قرأنا له- على مقابل لهذا المفهوم. فاقترحنا الجماعة العضوية قبيلا له. ويبدو ما اقترحنا ضروريا وإلا جاز أن تنعت كل جماعة -أيا كان حجمها- بالوظيفية، فيفقد المفهوم حدوده وإجرائيته ومن ثم نجاعته.
فتكون المقاومة العضويّة هي التي تستمد شروط فعلها واستمرارها من بيئتها وإن قلّ فعلها. والمقاومة الوظيفيّة هي التي تستمد شروط فعلها واستمرارها من خارج مجالها الحيويّ، وإن عظم أثرُها.
"
المقاومة العضويّة هي التي تستمد شروط فعلها واستمرارها من بيئتها وإن قلّ فعلها. والمقاومة الوظيفيّة هي التي تستمد شروط فعلها واستمرارها من خارج مجالها الحيوي وإن عظم أثرُها
"
كانت المقاومة في المجال العربي صورة من فرز على قاعدة الحريّة امتدّ من تونس (حركة 18 أكتوبر)، مرورا بمصر (حركة كفاية)، وسوريّة (ربيع دمشق)، وانتهاء بلبنان وفلسطين.
ولئن كانت المقاومة في مجمل الأقطار العربية سياسية مدنية فإنّها في لبنان وفلسطين كانت عسكرية، تنشد إقامة توازن رعب مع العدوّ، وكان لها في لبنان جولات حررت فيها الأرض بقوة السلاح، وهزت مؤسسة العدوّ العسكرية شرط وجوده الأساسي. وتمكنت في الحرب على غزة من أن تمنع العدوّ من تحقيق أهدافه المعلنة والخفية.
كانت المقاومة في غزة تتحرك بحرية بين أهلها بالرغم من الحصار المطبق من الخارج، في حين بدا حزب الله محاصرا بالحالة الطائفية، في الداخل، بالرغم من حرية النفاذ إلى الخارج. ولقد نبهَنا موقف حزب الله المتردد من المقاومة في العراق حينما كانت في أوجها إلى وظيفية مقاومته، ومدى ارتهانها سياسيا وأخلاقيا إلى مصلحة الحليف الإيراني.
ولئن كان بوسعنا أن نتفهم دوران إيران مع مصلحتها في سياق صراع النفوذ حول المجال العربي الخالي من أي مشروع سياسي موحد، فإنه لا يمكن أن نتفهم تبعية حزب الله للموقف الإيراني، وهو لا يفتأ يذكّر بأن مقاومته لتحرير الأمة.
وإذا كان بعضٌ من النظام العربي قد أدار ظهره لفلسطين وقدْسِها وعقد الصلح مع المحتل في ملابسات معلومة، فلا شيء يضمن أن تكون إيران إلى جانب الحق الفلسطيني في كل الأحوال. وليس في القول بـ"وظيفية" مقاومة حزب الله تقليلٌ من بلائه في مقاومة المحتل وجهاده لتحرير الأرض، وإنما لتمييزها عن مقاومة ترتبط عضويا بالمجال العربي ومنه تستمد شرط وجودها واستمرارها.
ولذلك قدّرنا أن المقاومة في فلسطين، على الرغم من ارتباطاتها المتينة بقوى الممانعة في المنطقة وعلى رأسها إيران، فإنها لم تفقد طبيعتها العضوية. فصارت المقاومة صنفين: مقاومة وظيفية يمثلها حزب الله، ولا يخرجها من وظيفيتها إلا اتجاهُها إلى التحرر التدريجي من شروط صراع النفوذ الإقليمي، والتجذر في محيطها اللبناني. ومقاومة عضوية تمثلها حماس، قابلة لأن تصبح وظيفية إذا لم توازن بين تحالفاتها وشروط وجودها واستمرارها.
وتأتي الثورة حدثا لا عهد للمجال العربي به، فكيف كان أثرها على المقاومة الوظيفية منها والعضوية؟
وكانت الثورة
جاءت الثورة تتويجا لما كان من فرز على قاعدة الحرية شقّ المجال العربي بدرجات متفاوتة، تجاوزا لفرز كان أساسه الأيديولوجيا، وتتويجا لثقافة المقاومة التي نجحت قواها الممثلة في كسر شوكة العدو في لبنان وفلسطين، واختراق النظام الإقليمي الذي شهد ظهور قوة جديدة بين الممانعة والمساومة، متمثلة في قطر وتركيا. تنتمي الأولى إلى المجال العربي وتجاورُه الثانية لاعبا مهمّا فيه، قبل أن يستعيد توازنه بتوحده تدريجيا.
جاءت الثورة في هذه المرحلة الدقيقة وكان انتشارها السريع من تونس إلى مصر وليبيا واليمن، وصداها الكبير في باقي الأقطار يشير إلى أنها عميقة الجذور في المجال العربي. وهي من جانب آخر حركة احتجاج سياسية اجتماعية جذرية في وجه نظام عربي جمع الاستبداد إلى الفساد، وعمل على توريثهما. وقد كان له هذا في سوريا باسم شرعية صمود وتصدٍّ موهومة، وفي المغرب والأردن باسم ملَكية تستند إلى شرعية دينية تاريخية مزعومة.
كان اندلاع الثورة في ليبيا واتساع رقعتها بسرعة قياسية مفاجئا لما مثله من تحدٍّ بطولي لأعلى سقف للعنف في النظام العربي. ومشجعا لطالبي الحرية في السياقات المشابهة على النهوض في وجه قمع تأبد حتّى صار درؤه أمرا غير مفكر فيه.
وكانت الانطلاقة في سوريا نموذجا أوفى لما بلغه الانتصار على الخوف من عنفوان. وكان التقابل في السياق السوري بين المقاومة والثورة بيّنا. وبالرغم من أن النظام السوري لم يكن أكثر من مستظل بسقف المقاومة إلا أن السياق العربي وصراع النفوذ الإقليمي والدولي جعلا منه ثالثة الأثافي فيها إلى جانب إيران وحزب الله. ولقد كان حزب الله، قبل الثورة العربية، يلمّح في خطابه السياسي إلى مواجهة لا رادّ لها مع إسرائيل قد تكون حاسمة.
"
كان قانون الثورة كليّا في المجال العربي لا يميّز بين استبداد واستبداد، وليس في وارده أن يُمهل نظاما فاسدا مستبدا وإن تعلق بأستار المقاومة
"
كان قانون الثورة كليّا في المجال العربي لا يميّز بين استبداد واستبداد، وليس في وارده أن يمهل نظاما فاسدا مستبدا وإن تعلق بأستار المقاومة. لذلك لم يكن من الأخلاق في شيء أن يُطلب من الشعب السوري المظلوم أن يؤجل حركته نحو الحرية تحت ذريعة المحافظة على أساس المقاومة.
ومن المؤسف أن أغلب أهل المقاومة من المناضلين والمثقفين تعثروا عند الحالة السورية؛ فمنهم من حصر التعارض بين الثورة والمقاومة في المثال السوري، ومنهم من أدرك أن الثورة حالة عامة في المجال العربي، تُتبنى جملة أو تُترك جملة، فلم يدخر بعضُهم الجهد في الإقناع باندراج الثورة ضمن برنامج للقوى الدولية لإعادة إنتاج المنطقة بعد انتهاء صلاحية جيل كامل من الأنظمة التابعة. وكثيرا ما يُحتجّ بالمثال الليبي على سلامة وجهة النظر هذه بعد تدخل النيتو.
ولعل أكثر ما جسد هذا الاضطراب آخر حديث لسماحة الأمين العام لحزب الله، وهو من هو صدقا وقوة حجة ووضوح بيان. كانت مرافعته عن المقاومة من خلال الحالة السورية ضعيفة، بدت فيها صورة المقاومة لأول مرة باهتة.
وكان عرضُه متهافتا يتنكر آخرُه لأوله، ولم يُشر ولو على سبيل الأسف إلى ما طال الأحرار في سوريا من تنكيل وقتل، واكتفى بالدعوة إلى جلوس الجلاد المتجهم والضحية النازفة إلى حوار للإصلاح السياسي.
إنه يعيد إنتاج خطاب النظام السوري، ويضع المقاومة في موضع لا يليق بها. إننا أمام أداء سياسي يُبرز موقفا لأهل المقاومة من الحرية غير مسبوق، ويجلو أزمة سياسية أخلاقية ترتقي إلى مرتبة الفتنة كما استقرت في وجدان الأمة.
ومن اللافت أن يكون الموقف الإيراني على لسان الرئيس نجاد المغادر -حين ذكّر بحق الشعب السوري في الحرية والكرامة- أكثر إنصافا وأقل انسجاما مع النظام السوري. ولا غرابة، فمن أول أمر الدنيا كان الفرع دائما يعتقد أن إثبات جدارته لا يكون إلا بإظهار حرصه على مصلحة الأصل أكثر من الأصل نفسه.
تأسيس الموقف
إذا كانت الغاية التي تجري إليها المقاومة والثورة هي تأسيس الحرية. فكيف نفسّر التعارض بينهما؟
تبدو وجهة النظر التي تضع الثورات في سياق مؤامرة واسعةً متهافتةً، دون أن ننفي سعي كثير من القوى الدولية إلى إجهاض الثورة الفتية بوسائل تنسجم مع خصوصية الثورة في كل قطر.
تيسّر ثنائية الوظيفي/العضوي تأسيس التعارض بين الثورة والمقاومة. فمقاومة حزب الله لم تنجح في نزع صفتها الوظيفية، ويعود الأمر إلى عدة أسباب أهمها ولاء حزب الله المرجعي، وحال المجال العربي الذي تأجل توحده خلافا للمجالين الإيراني والتركي.
ويبدو توحيد المجال العربي من غايات ثورة الكرامة. ولسنا نشير البتة إلى دولة الوحدة من منظور الفكر القومي العربي المتأثر بمفهوم الدولة القومية كما استقرت في أوروبا في القرن السابع عشر نتيجة الإصلاحين الديني والفلسفي، بقدر ما ننبّه على أنّ الوحدة، من وجهة نظرنا، تبدأ بمستويات من التبادل الاقتصادي والتواصل الثقافي والتنسيق السياسي، حالت دونها أنظمة الفساد والاستبداد والتبعية، ستفضي بترسخها، إلى قيام كيان سياسي ثقافي اقتصادي إقليمي.
تُمثل المقاومة بموقفها الحالي من ثورة الحرية في سوريا عقبة في سبيل اتجاه المجال العربي نحو التوحد، وتبقى امتدادا للنفوذ الإقليمي، وهذا حال حزب الله والجهاد الإسلامي والفصائل المرتبطة بسوريا، وتبدو حماس بمقاومتها مرشحة لأن تلتحق بوظيفية حزب الله أمام موقفها غير الواضح من ثورة الحرية في سوريا، ولا عذر لها في عجزها عن فكّ الارتباط مع نظام يقتل شعبه. ولم تكن مصالحتها مع فريق أوسلو إلا مؤشرا على قراءة غير دقيقة للثورة في المجال العربي. وبدا التقاء الفريقين تقاطعا بين سلطة بائسة تخشى العدم ومقاومة حائرة تخشى الهرم، إذ لا معنى لاجتماع مقاوم بمساوم هو في حُكم النظام العربي الذي جاءت الثورة لكنسه.
تكتسي هذه المرحلة الانتقالية أهمية قصوى، ذلك لأن الثورة المندلعة في المجال العربي مختلفة من جهة طبيعتها ومداها، فمنها السلمية التي نجحت في إسقاط رأس النظام وتسعى بصعوبة إلى تأسيس الحرية، مثلما هو الحال في تونس ومصر.
ومنها التي انطلقت سلمية ثم حملت السلاح مكرَهة، كالثورة في ليبيا التي هزمت القذافي واحتلت الساحة الخضراء في قلب طرابلس، في الأسبوع الأول من اندلاعها، فلجأ إلى السلاح لتبرير سحقها أو تحويلها إلى حرب أهلية، لكن عزيمة الثوار سطرتها حربَ تحريرٍ شعبيةً، أربكت النيتو وانتصرت على أعلى سقف للعنف في النظام العربي، وشقت طريقا ثالثا بين الاستبداد والاستعمار.
ومنها التي نجحت في المحافظة على وجهها السلمي، بالرغم من القتل بالسلاح الثقيل. فبدت الملايين في الساحات في اليمن مدهشة، والمظاهرات الشعبية المواجهة للدبابات في سوريا مذهلة.
"
أهمّ ما يمكن الوقوف عنده في هذه المرحلة الانتقالية هو أن الثورة التي لم تضع أوزارها لم تفرز بعدُ نظامها السياسي الذي سيكون أساسه التعاقدَ، بعد أن كان أساس النظام المنهار الغلبة
"
ولعل أهمّ ما يمكن الوقوف عنده في هذه المرحلة الانتقاليّة هو أن الثورة التي لم تضع أوزارها لم تفرز بعدُ نظامها السياسي الذي سيكون أساسه التعاقدَ، بعد أن كان أساس النظام المنهار الغلبة. وسيكون هذا النظام الجديد عامل توحيد للمجال العربي، ويكون انبناء هذا المجال سياسيا مقدمة لتوازن إقليمي أطرافه: العرب، والفرس، والأتراك، مما سيدفع القوى الدولية وعلى رأسها الولايات المتحدة إلى الارتداد إلى مجالاتها الحيوية التاريخية. ويكون ارتداد الولايات المتحدة إلى الأطلسي، بالنسبة إلى الكيان الصهيوني، زوالَ شرط وجوده.
نعيش -في المجال العربي- منعرجا مهمّا ومرحلة دقيقة نسمّيها مرحلة إسقاط النظام، ستكون مهمّتها الأساسية التخلص من بقايا الأنظمة الأيديولوجية التي قامت في خمسينيات القرن الماضي في المجال العربي، وتأسيس المجال السياسي الجديد: العدالة والتنمية.
وستختفي من القاموس السياسي في المدى المنظور عبارة إسقاط النظام، لأنه لن يوجد نظام بالمعنى الذي نعرفه اليوم لكي يتمّ إسقاطه، وإنما قد تسقط حكومة أو تحالف في إطار النظام الجديد والتداول السلمي على السلطة. وإن ما يقوي الأمل في أن ترسو الثورة عند هذه الغاية ما صار أشبه بالقانون وقوامه، أنه لا نجاة لنظام مستبد هبت الجماهير في وجهه مطالبة بحريتها. ولنا في بن علي الهارب، ومبارك المنهار والقذافي الساقط وصالح المحترق خير دليل.
فليس أمام المقاومة التي كانت نجاحاتها في زمن الإحباط من أسباب تأجيج الأمل في النهوض، إلا أن تعدّل بوصلتها على ضوء الثورة، قبل فوات الأوان، بالرغم من خصوصية الحالة السورية وتشعّبها عربيا وإقليميا.
0 commentaires:
إرسال تعليق