نص استقالة الدكتور مهدي مبروك من الحزب الديمقراطي التقدمي
تحية نضالية وبعد
يشرفني
أن أوافي الراي العام بنص استقالتي مضمنا إياها خلاصة تقييمي لتجربة
سياسية ساهمت إلى حد ما في صياغتها بكل إخلاص ونزاهة وحرصت خلالها على
تجسيد مبادئ الحزب الديموقراطي التقدمي والدفاع عنها والذود على سمعته في
كنف الانضباط الحزبي. وسأحرص قدر الإمكان على تجنب الانطباعات الذاتية
القائمة على تقلب المزاج وهوى الميولات لأقدم أفكارا واستنتاجات توصلت
اليها بعد تردد انتابني منذ 14 جانفي2011 وزادت حقائق موجعة وأحيانا صادمة
ترسيخ ما رجحت من فرضيات. يبدو انه آن الأوان للمصارحة بحثا عن إصلاح تبدو
حظوظه ضعيفة في مناخ من النشوة العارمة بالتوسع الكمي وتوفر الإمكانات
المالية التي أعمت البعض وجعلته لا يبصر من الأمور إلا التي تغريه. سأكتفي
باستحضار محطات بعينها لكثافة مغزاها زاهدا في استعراض التفاصيل من الأحداث
والوقائع وهي كثيرة الا عند الاقتضاء:
- اسمحوا لي في البداية أن أذكر إنني انتميت إلى هذا الحزب على اثر مشاورات كان أجراها السيد احمد نجيب الشابي على امتداد أشهر سنة 1999 مع جملة من المناضلين والمثقفين من ذوي الميولات المختلفة والمشارب المتعددة. وصنفت آنذاك ضمن ما سموا، رغم التباس الوصم ودهائه أحيانا، بـ"الإسلاميين المستقلين" طورا او الإسلاميين التقدميين طورا آخر. توجت تلك المشاورات بالدخول إلى "التجمع الاشتراكي" سابقا إيمانا منا بان المساهمة في معركة الديموقراطية واجب وطني بعد ما يناهز العشريتين من القمع والخوف. ولم نر آنذاك إلا هذا الحزب فضاء لذلك وكان حقيقة واعدا نظرا للخط النضالي الذي اجتباه لنفسه والتعددية التي كان يبشر بها خصوصا وقد انضمت اليه في نفس الوقت مجموعات يسارية وعروبية وليبرالية. ولكن شيئا فشيئا بدأت التجربة تتحلل لأخطاء، بعضها يعود لثقافة "الحوز التاريخي" التي رهنت الحزب والبعض الآخر إلى ضعف ثقافة التعايش والعجز التنظيمي عن احتواء ذلك. خرج جل من التحق من مجموعات وظل "الإسلاميون المستقلون" حجر الزاوية في بناء الحزب الديموقراطي التقدمي ومعهم ثلة أخرى من المناضلين المستقلين ومضت رغم ذلك التجربة ناجحة أحيانا متعثرة أحيانا أخرى ولكن استطاع الحزب مع ذلك وفي زمن القمع ان يكون عنوانا للنضال. ولقد كنت شاهدا على رفض الحزب المساومة على مبادئه رغم حجم الإغراءات المقدمة اليه طورا صراحة و طورا تلميحا. دفع الحزب ثمن ذلك من ماله وصحة مناضليه وعمر شبابه فسجن من سجن وشرد من شرد وضويق من ضويق دون تنازل او مهادنة فحاز على ثقة الكثير وتمكن من الانتشار في فضاءات وأوساط لم يألفها من قبل. ونمت لدى المناضلين عموما ثقافة النضال والتضحية والتطوع والزهد في الغنائم فدفعوا من مالهم وقوتهم ودمهم الكثير. حين سال دمي ذات مارس 2005 على الإسفلت تصديا لزيارة "شارون" واعتقلت ورمي بي في مصحة النجدة بمناسبة القمة العالمية للمعلومات، ولم أكن استثناء، كان ذلك باسم الحزب ووفاء لمبادئه وخطه العروبي والإسلامي.
- لما قرر الأصدقاء محمد القوماني وفتحي التوزري وبعض المناضلين الآخرين الانسحاب من الحزب بعد خلاف لا زلت اعتقد إلى حد الآن انه كان بالإمكان تفاديه خيرت البقاء واعتبرت أطروحة المجموعة المنسحبة وبقطع النظر عن التفاصيل التي حفت بهذا تقديرا واجتهادا لا ينسجم مع خط الحزب آنذاك. كنت من بين لجنة الحكماء الذين توسطوا قصد راب الصدع ولكن تشغيل الآلة التنظيمية والتخوين على خلفية التصنيفات الواصمة عطل تلك المساعي. غادرت المجموعة الحزب في مناخ من التشفي والارتياح لدى البعض وظللت رغم ذلك متمسكا بالحزب وفصلت بين الصداقة والانتماء. يبدو أن ذلك كان علامة فارقة حيث بدوت للبعض وكأنني النشاز الذي عليه أن يرحل.
- بعد الثورة وفي مناخ متسم بالضبابية والغموض وافتقاد الشفافية أحيانا بدأت مواقف الحزب صادمة أحيانا مرتجلة أحيانا أخرى ولكن الثابت انها لم تدرس في هياكل الحزب. (الموقف من الدخول إلى الحكومة، من حل التجمع، من القصبة واحد والقصبة اثنين، من تحالف 18 اكتوبر وحكومة باجي قائد السبسي والتحالفات المقبلة…). اضطررنا إلى التبرير في مواقع عدة دون ان نكون على اقتناع بها. وقد عمق ذلك ابتعاد الأخ نجيب الشابي عن الحزب وتفرغه للحملة الرئاسية مع "مجموعة استوديو 38" واستئثار حلقة مغلقة تشكلت ضمن منطق الشلة بتسيير الحزب. بعيدا عن نظرية الأيادي الخفية يبدو أن دوائر القرار غدت مجهولة.
- اتسع الحزب في الأشهر الأخيرة ليفد اليه أفراد ومجموعات مختلفة المشارب والتجارب في كثير من الأحيان منفلتة الطموح والانتظارات لم يعرف لجلهم موقف أو رأي خلال حكم بن علي الا القليل الذين أكن لهم الاحترام وقد قدموا من تجارب سياسية نضالية. كان ذلك التوسع ضرورة بل وحاجة بالنسبة إلى حزب يطمح في الحكم وهو حق مشروع لا يدرك الا بحزب جماهيري حديث التنظيم ذي إمكانيات وموارد محترمة. وتبعا لذلك تم توسيع هياكل الحزب وخصوصا الهيئة التنفيذية، التي تغولت دو سند قانوني وابتلعت صلاحيات غيرها، والمكتب السياسي واللجنة المركزية. يذكرنا هذا التوسع حقيقة بالأحزاب الشمولية في الاتحاد السوفياتي سابقا أو الصين حاليا. انه تعويم يستجيب لاستراتيجيا الترضية والابتزاز وتذويب مناطق الممانعة. أصبحت النقاشات بيداغوجيا وعمليا شبه مستحيلة وانزحنا إلى ما يشبه تزكية القرارات المتخذة سلفا.
- تنفذت بعد الثورة مجموعات مالية تكنوقراطية البعض منها كان ينتمي الى التجمع الدستوري الديموقراطي وانضمت بموجب التوسعة المذكورة سابقا الى المكتب السياسي، الهيئة تنفيذية واللجنة المركزية وتم استبعاد تدريجي لبعض المناضلين الأوائل الذين قبضوا على الجمر وأمّنوا استمرار الخط النضالي للحزب زمن المخلوع بن علي. وكانت أكثر المجموعات تضررا الجامعيون فبحكم تكوينهم وأخلاقهم لم يحذقوا لعبة الاصطفاف. وعلى خلاف الأحزاب الأخرى التي تحرص على استقطاب هؤلاء وتثمين مساهمتهم على غرار حركة النهضة وحركة التجديد والتكتل من اجل العمل والحريات يبدد الحزب الديموقراطي التقدمي هذا الرصيد فأصبح وجودهم باهتا رغم نضالاتهم التي جلبت لهم الاحترام في الساحة الجامعية ويتذكر الحزب تلك المساندة العريضة التي لقيتها إضرابات الجوع التي خاضتها قيادة الحزب في اكثر من مرة.
- ان التعويل على "مكتب دراسات" لإعداد برنامج الحزب واستفراد اطراف معينة عاملت الجامعيين بصلف فانسحبوا كليا منذ الجلسة الأولى، قد أثار استياء العديد من المناضلين. لقد كان هذا البرنامج فعلا برنامج مكتب دراسات فاقدا للروح السياسية ناهيك عن انزياحه الى ليبيرالية واضحة لم تفلح التعديلات الطفيفة على إخفاء شراستها. ولربما كان صياغة الجانب المتعلق بالثقافة من قبل احد الأجانب بالتعاون مع "مثقفين" علامة فارقة في ارتباطي العاطفي والذهني والفكري بالحزب. لقد توليت إعداد ورقتين لنفس البرنامج الأولى تتعلق (الأولى) بالثقافة في حين تتناول الثانية البحث العلمي مستعينا في كل مرة بالصديق ناجي جلول ومستندا في ذات الوقت الى الخبرة التي حصلت لدي خصوصا وقد توليت صياغة اللائحة الثقافية لمؤتمري الحزب سنة 2001 و سنة 2006. كان صياغة برنامج الحزب باللغة الفرنسية مؤشرا على استفحال تيار فرنكفوني يعد لانقلاب على عروبة هذا الحزب. ان النقلة من نهج ايف نوهال الى استوديو 38 في الشارع المهيب كانت نقلة دراماتيكية لن تنجو منها أجيال بأكملها. في هذا التحول الرهيب للحزب حدث طفرات مسخ مؤلمة.
- لم يعد الحزب فضاء للنقاش والجدل في المسائل الكبرى وحتى اجتماعات اللجنة المركزية والمكتب السياسي لم يستند جدول أعمالها إلى ورقات مثلما تعودنا وساد الارتجال الشفوي والحسم في القضايا بشكل لا هو توافقي ولا هو تصويتي. وتم الحسم في قضايا شائكة وحساسة ومنها حصرا علاقة الديني بالسياسي والعلاقة مع الإسلاميين بتسرع شخصي للبعض في حين كان احد الجامعيين، من الرعيل الأول للحزب واحد المختصين القلائل في تونس في الظاهرة الإسلامية، يصر في أكثر من مرة على عرض ورقة أعدها للغرض. مضى الآن اكثر من شهرين على ذلك وحسمت المسالة دون ان تتاح له فرصة. بل ورأيت البعض يستخف بهذا الجهد. اعلم ان الأحزاب ليست منتديات فكرية ولكن حسم المسائل بهذا الاستخفاف لن يعمق الا البرغماتية السطحية.
- أثناء إعداد قائمات مرشحي الحزب للمجلس التأسيسي تبنى الحزب مقاييس غامضة تتراوح بين الوفاق تارة وبين التصويت تارة أخرى في مناخ من الصراع المرير على المواقع والتحالفات والشلل والتملق وكان ذلك على حساب الأخلاق النضالية وبرزت ثقافة التزكية والمناشدة والعشائرية وغيرها وباسم مساواتية توفر الحظوظ للقدامي والجدد. يتساوى من دفع من عمره ودمه وماله وجهده طوال عقود مع من لم يدخل الحزب أصلا. وترأست قائمات الحزب في بعض الدوائر الانتخابية شخصيات لا علاقة لها بالحزب استطاعت بنفوذها ان تحجز مقاعد في القائمات و لم اجد من وصف لما يجري حاليا الا هذه المفردات راجيا المعذرة عن بلاغة القسوة هذه. البراغماتية المنفلتة من أي ضابط او وازع والتسويق السياسي الفج أباحَا للأسف كل ذلك.. تم إتلاف ذاكرة الحزب وطمس رموزه المتعددة واستبدالها بزبونية جديدة يتساوى فيها كل المتسابقون. ومن المؤسف ان نرى أشخاصا تبرؤوا من الحزب واستقالوا منه يعودون إليه ثانية بعد الثورة ليتسلقوا المراتب في تناغم تام مع القادمين اليه مصعدا او تبييضا للذمة. لا انفي طموحاتي السياسية المشروعة وهي العبارة التي ما فتئت ترددها الأخت الأمينة العامة للحزب ولكن عزفت عن تقديم ترشحي لأسباب تعود إلى غربة الحزب وخطفه من قبل مجموعات مالية وتكنوقراطية ناهيك عن الحظوظ غير المتساوية أصلا في ظل افتقاد معايير مشروعة. كم كان مؤلما أن نرى أصدقاء جسدوا الحزب وارتقوا به أيام القبض على الجمر يصطفون في سباق الترشح مع من لا يعرف تسمية الحزب أصلا. سنجد في المجلس التأسيسي ممثلين يخيطون لنا دستورا بفضل وجاهات وواجهات لا تمت لمبادئ الثورة بصلة.
ونظرا لجسامة تلك التحفظات وللتباين الشاسع مع الخيارات والتوجهات التي يقدم الحزب الديموقراطي التقدمي على تبنيها حاليا ونكثه للميثاق الأدبي الذي علي أسسه انتميت ذات يوم ومع تقديري للمناضلين الذين قاسمتهم ماء وملحا وعرقا ودما فأنني اقدم استقالتي راجيا للحزب التوفيق.
قد تدفع هذه الرسالة البعض إلى التساؤل وقد تدفع البعض الآخر إلى تشغيل فزاعات الوصم ونظرية المؤامرة والارتباط بالأجندات الداخلية والخارجية وذلك ما لا ارجوه. لقد أردت بذلك الإدلاء بشهادة على تجربة شخصية وجماعية اعتقد ان بعض الجهات عملت على إجهاضها في حقبة مفصلية من تاريخ بلادنا وقد يكون لما ذكرت تبعات جسيمة على مستقبل البلاد برمته.
أترك الحزب الديموقراطي التقدمي وهو على مشارف الحكم ولكن يبدو ان الطريق الذي اختاره لم يعد يتسع لخطاي. ولأن "المستقبل يبدأ الآن" كان لزاما عليّ ان أتوقف في نون الجماعة وآن اللحظة العابرة امسكها حتى ترسخ قدمي في رمال الشك والخيبة.
مع وافر التقدير والسلام
- اسمحوا لي في البداية أن أذكر إنني انتميت إلى هذا الحزب على اثر مشاورات كان أجراها السيد احمد نجيب الشابي على امتداد أشهر سنة 1999 مع جملة من المناضلين والمثقفين من ذوي الميولات المختلفة والمشارب المتعددة. وصنفت آنذاك ضمن ما سموا، رغم التباس الوصم ودهائه أحيانا، بـ"الإسلاميين المستقلين" طورا او الإسلاميين التقدميين طورا آخر. توجت تلك المشاورات بالدخول إلى "التجمع الاشتراكي" سابقا إيمانا منا بان المساهمة في معركة الديموقراطية واجب وطني بعد ما يناهز العشريتين من القمع والخوف. ولم نر آنذاك إلا هذا الحزب فضاء لذلك وكان حقيقة واعدا نظرا للخط النضالي الذي اجتباه لنفسه والتعددية التي كان يبشر بها خصوصا وقد انضمت اليه في نفس الوقت مجموعات يسارية وعروبية وليبرالية. ولكن شيئا فشيئا بدأت التجربة تتحلل لأخطاء، بعضها يعود لثقافة "الحوز التاريخي" التي رهنت الحزب والبعض الآخر إلى ضعف ثقافة التعايش والعجز التنظيمي عن احتواء ذلك. خرج جل من التحق من مجموعات وظل "الإسلاميون المستقلون" حجر الزاوية في بناء الحزب الديموقراطي التقدمي ومعهم ثلة أخرى من المناضلين المستقلين ومضت رغم ذلك التجربة ناجحة أحيانا متعثرة أحيانا أخرى ولكن استطاع الحزب مع ذلك وفي زمن القمع ان يكون عنوانا للنضال. ولقد كنت شاهدا على رفض الحزب المساومة على مبادئه رغم حجم الإغراءات المقدمة اليه طورا صراحة و طورا تلميحا. دفع الحزب ثمن ذلك من ماله وصحة مناضليه وعمر شبابه فسجن من سجن وشرد من شرد وضويق من ضويق دون تنازل او مهادنة فحاز على ثقة الكثير وتمكن من الانتشار في فضاءات وأوساط لم يألفها من قبل. ونمت لدى المناضلين عموما ثقافة النضال والتضحية والتطوع والزهد في الغنائم فدفعوا من مالهم وقوتهم ودمهم الكثير. حين سال دمي ذات مارس 2005 على الإسفلت تصديا لزيارة "شارون" واعتقلت ورمي بي في مصحة النجدة بمناسبة القمة العالمية للمعلومات، ولم أكن استثناء، كان ذلك باسم الحزب ووفاء لمبادئه وخطه العروبي والإسلامي.
- لما قرر الأصدقاء محمد القوماني وفتحي التوزري وبعض المناضلين الآخرين الانسحاب من الحزب بعد خلاف لا زلت اعتقد إلى حد الآن انه كان بالإمكان تفاديه خيرت البقاء واعتبرت أطروحة المجموعة المنسحبة وبقطع النظر عن التفاصيل التي حفت بهذا تقديرا واجتهادا لا ينسجم مع خط الحزب آنذاك. كنت من بين لجنة الحكماء الذين توسطوا قصد راب الصدع ولكن تشغيل الآلة التنظيمية والتخوين على خلفية التصنيفات الواصمة عطل تلك المساعي. غادرت المجموعة الحزب في مناخ من التشفي والارتياح لدى البعض وظللت رغم ذلك متمسكا بالحزب وفصلت بين الصداقة والانتماء. يبدو أن ذلك كان علامة فارقة حيث بدوت للبعض وكأنني النشاز الذي عليه أن يرحل.
- بعد الثورة وفي مناخ متسم بالضبابية والغموض وافتقاد الشفافية أحيانا بدأت مواقف الحزب صادمة أحيانا مرتجلة أحيانا أخرى ولكن الثابت انها لم تدرس في هياكل الحزب. (الموقف من الدخول إلى الحكومة، من حل التجمع، من القصبة واحد والقصبة اثنين، من تحالف 18 اكتوبر وحكومة باجي قائد السبسي والتحالفات المقبلة…). اضطررنا إلى التبرير في مواقع عدة دون ان نكون على اقتناع بها. وقد عمق ذلك ابتعاد الأخ نجيب الشابي عن الحزب وتفرغه للحملة الرئاسية مع "مجموعة استوديو 38" واستئثار حلقة مغلقة تشكلت ضمن منطق الشلة بتسيير الحزب. بعيدا عن نظرية الأيادي الخفية يبدو أن دوائر القرار غدت مجهولة.
- اتسع الحزب في الأشهر الأخيرة ليفد اليه أفراد ومجموعات مختلفة المشارب والتجارب في كثير من الأحيان منفلتة الطموح والانتظارات لم يعرف لجلهم موقف أو رأي خلال حكم بن علي الا القليل الذين أكن لهم الاحترام وقد قدموا من تجارب سياسية نضالية. كان ذلك التوسع ضرورة بل وحاجة بالنسبة إلى حزب يطمح في الحكم وهو حق مشروع لا يدرك الا بحزب جماهيري حديث التنظيم ذي إمكانيات وموارد محترمة. وتبعا لذلك تم توسيع هياكل الحزب وخصوصا الهيئة التنفيذية، التي تغولت دو سند قانوني وابتلعت صلاحيات غيرها، والمكتب السياسي واللجنة المركزية. يذكرنا هذا التوسع حقيقة بالأحزاب الشمولية في الاتحاد السوفياتي سابقا أو الصين حاليا. انه تعويم يستجيب لاستراتيجيا الترضية والابتزاز وتذويب مناطق الممانعة. أصبحت النقاشات بيداغوجيا وعمليا شبه مستحيلة وانزحنا إلى ما يشبه تزكية القرارات المتخذة سلفا.
- تنفذت بعد الثورة مجموعات مالية تكنوقراطية البعض منها كان ينتمي الى التجمع الدستوري الديموقراطي وانضمت بموجب التوسعة المذكورة سابقا الى المكتب السياسي، الهيئة تنفيذية واللجنة المركزية وتم استبعاد تدريجي لبعض المناضلين الأوائل الذين قبضوا على الجمر وأمّنوا استمرار الخط النضالي للحزب زمن المخلوع بن علي. وكانت أكثر المجموعات تضررا الجامعيون فبحكم تكوينهم وأخلاقهم لم يحذقوا لعبة الاصطفاف. وعلى خلاف الأحزاب الأخرى التي تحرص على استقطاب هؤلاء وتثمين مساهمتهم على غرار حركة النهضة وحركة التجديد والتكتل من اجل العمل والحريات يبدد الحزب الديموقراطي التقدمي هذا الرصيد فأصبح وجودهم باهتا رغم نضالاتهم التي جلبت لهم الاحترام في الساحة الجامعية ويتذكر الحزب تلك المساندة العريضة التي لقيتها إضرابات الجوع التي خاضتها قيادة الحزب في اكثر من مرة.
- ان التعويل على "مكتب دراسات" لإعداد برنامج الحزب واستفراد اطراف معينة عاملت الجامعيين بصلف فانسحبوا كليا منذ الجلسة الأولى، قد أثار استياء العديد من المناضلين. لقد كان هذا البرنامج فعلا برنامج مكتب دراسات فاقدا للروح السياسية ناهيك عن انزياحه الى ليبيرالية واضحة لم تفلح التعديلات الطفيفة على إخفاء شراستها. ولربما كان صياغة الجانب المتعلق بالثقافة من قبل احد الأجانب بالتعاون مع "مثقفين" علامة فارقة في ارتباطي العاطفي والذهني والفكري بالحزب. لقد توليت إعداد ورقتين لنفس البرنامج الأولى تتعلق (الأولى) بالثقافة في حين تتناول الثانية البحث العلمي مستعينا في كل مرة بالصديق ناجي جلول ومستندا في ذات الوقت الى الخبرة التي حصلت لدي خصوصا وقد توليت صياغة اللائحة الثقافية لمؤتمري الحزب سنة 2001 و سنة 2006. كان صياغة برنامج الحزب باللغة الفرنسية مؤشرا على استفحال تيار فرنكفوني يعد لانقلاب على عروبة هذا الحزب. ان النقلة من نهج ايف نوهال الى استوديو 38 في الشارع المهيب كانت نقلة دراماتيكية لن تنجو منها أجيال بأكملها. في هذا التحول الرهيب للحزب حدث طفرات مسخ مؤلمة.
- لم يعد الحزب فضاء للنقاش والجدل في المسائل الكبرى وحتى اجتماعات اللجنة المركزية والمكتب السياسي لم يستند جدول أعمالها إلى ورقات مثلما تعودنا وساد الارتجال الشفوي والحسم في القضايا بشكل لا هو توافقي ولا هو تصويتي. وتم الحسم في قضايا شائكة وحساسة ومنها حصرا علاقة الديني بالسياسي والعلاقة مع الإسلاميين بتسرع شخصي للبعض في حين كان احد الجامعيين، من الرعيل الأول للحزب واحد المختصين القلائل في تونس في الظاهرة الإسلامية، يصر في أكثر من مرة على عرض ورقة أعدها للغرض. مضى الآن اكثر من شهرين على ذلك وحسمت المسالة دون ان تتاح له فرصة. بل ورأيت البعض يستخف بهذا الجهد. اعلم ان الأحزاب ليست منتديات فكرية ولكن حسم المسائل بهذا الاستخفاف لن يعمق الا البرغماتية السطحية.
- أثناء إعداد قائمات مرشحي الحزب للمجلس التأسيسي تبنى الحزب مقاييس غامضة تتراوح بين الوفاق تارة وبين التصويت تارة أخرى في مناخ من الصراع المرير على المواقع والتحالفات والشلل والتملق وكان ذلك على حساب الأخلاق النضالية وبرزت ثقافة التزكية والمناشدة والعشائرية وغيرها وباسم مساواتية توفر الحظوظ للقدامي والجدد. يتساوى من دفع من عمره ودمه وماله وجهده طوال عقود مع من لم يدخل الحزب أصلا. وترأست قائمات الحزب في بعض الدوائر الانتخابية شخصيات لا علاقة لها بالحزب استطاعت بنفوذها ان تحجز مقاعد في القائمات و لم اجد من وصف لما يجري حاليا الا هذه المفردات راجيا المعذرة عن بلاغة القسوة هذه. البراغماتية المنفلتة من أي ضابط او وازع والتسويق السياسي الفج أباحَا للأسف كل ذلك.. تم إتلاف ذاكرة الحزب وطمس رموزه المتعددة واستبدالها بزبونية جديدة يتساوى فيها كل المتسابقون. ومن المؤسف ان نرى أشخاصا تبرؤوا من الحزب واستقالوا منه يعودون إليه ثانية بعد الثورة ليتسلقوا المراتب في تناغم تام مع القادمين اليه مصعدا او تبييضا للذمة. لا انفي طموحاتي السياسية المشروعة وهي العبارة التي ما فتئت ترددها الأخت الأمينة العامة للحزب ولكن عزفت عن تقديم ترشحي لأسباب تعود إلى غربة الحزب وخطفه من قبل مجموعات مالية وتكنوقراطية ناهيك عن الحظوظ غير المتساوية أصلا في ظل افتقاد معايير مشروعة. كم كان مؤلما أن نرى أصدقاء جسدوا الحزب وارتقوا به أيام القبض على الجمر يصطفون في سباق الترشح مع من لا يعرف تسمية الحزب أصلا. سنجد في المجلس التأسيسي ممثلين يخيطون لنا دستورا بفضل وجاهات وواجهات لا تمت لمبادئ الثورة بصلة.
ونظرا لجسامة تلك التحفظات وللتباين الشاسع مع الخيارات والتوجهات التي يقدم الحزب الديموقراطي التقدمي على تبنيها حاليا ونكثه للميثاق الأدبي الذي علي أسسه انتميت ذات يوم ومع تقديري للمناضلين الذين قاسمتهم ماء وملحا وعرقا ودما فأنني اقدم استقالتي راجيا للحزب التوفيق.
قد تدفع هذه الرسالة البعض إلى التساؤل وقد تدفع البعض الآخر إلى تشغيل فزاعات الوصم ونظرية المؤامرة والارتباط بالأجندات الداخلية والخارجية وذلك ما لا ارجوه. لقد أردت بذلك الإدلاء بشهادة على تجربة شخصية وجماعية اعتقد ان بعض الجهات عملت على إجهاضها في حقبة مفصلية من تاريخ بلادنا وقد يكون لما ذكرت تبعات جسيمة على مستقبل البلاد برمته.
أترك الحزب الديموقراطي التقدمي وهو على مشارف الحكم ولكن يبدو ان الطريق الذي اختاره لم يعد يتسع لخطاي. ولأن "المستقبل يبدأ الآن" كان لزاما عليّ ان أتوقف في نون الجماعة وآن اللحظة العابرة امسكها حتى ترسخ قدمي في رمال الشك والخيبة.
مع وافر التقدير والسلام
0 commentaires:
إرسال تعليق