وصف الصوره

مقدمة كتاب الإسلام والحداثة السياسية للدكتور مصدق الجليدي

 

العلمانية والدّيمقراطية وحقوق الإنسان: ثلاثة مصطلحات تبدو غريبة عن الثقافة الإسلامية التقليدية. وهي بالبداهة كذلك، بما أنها نتاج للفكر الأوروبي الحديث. هذا من جهة العقل النظري والتاريخي. أما من جهة العقل العملي، فإن هذه المصطلحات الثلاث تعبر عن مفاهيم إجرائية ارتفع سعرها في سوق السياسية، بل غدت، في ما وراء مزايدات هذا الطرف أو ذاك، ضرورات حيوية، لا استبعاد للحروب الأهلية ولا حفظ لكرامة الإنسان والمواطن إلا بها، والدروس القادمة من العراق ولبنان وفلسطين والجزائر خير دليل على ذلك.

فأين المشكل إذن؟
المشكل أن المريض لا يدرك دائما أيّ دواء هو بحاجة إليه. و"الرجل المريض"، وهذه استعارة قديمة ألحقت بالإمبراطورية العثمانية المتهاوية في أواخر القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، هذا المريض بدأ يتعافى في رأسه (تركيا)، ولكن قلبه الشرقي مازال مطعونا بخنجر الاستبداد وأطرافه تشكو من آلام في المفاصل(التمفصل بين الحداثة والتراث). كما أنّنا أمام خطر عودة المكبوت الجمعي:الحلم باستعادة نظام الخلافة. والأدهى من كل ذلك هو عندما نشهد تردّدا ونكوصا إلى الخلف لدى من ينادي بالمستبدّ العادل، من بين من تصدّوا في الآن نفسه لـ"تجديد التراث" والانتقال بنا من "النقل إلى الإبداع"، بدعوى أولوية الأجندة القومية (تحرير الأرض) على الأجندات الوطنية(الديمقراطية وحقوق الإنسان). وكأنّ الحرية ليست كلاّ لا يتجزّأ. لم تنتصر المقاومة الوطنية في لبنان في حرب تمّوز 2006 ولم تحرّر الأرض ولم تحرّر الأسرى إلاّ بأداء فرض الديمقراطية. وهذا ما جعل مفكرين علمانيين أمثال جورج قرم يعترف لها بالرّيادة في تحقيق هدف «اللحمة الاجتماعية والقدرة الدفاعية» في نفس الوقت .

فكيف نخرج من هذه الفوضى الفكرية والروحية؟
نقترح في هذه الورقات الأربع الذي تضمّنها هذا السّفر بعض المداخل النظرية لبناء حداثة سياسية إسلامية. أي حداثة سياسية تأخذ بعين الاعتبار العوائق والفرص الثقافية المتاحة للتصالح مع ذواتنا التي لا نكاد نتعرف عليها، لفرط ابتعادنا عن روح النص المؤسّس، تلك الرّوح المنتصرة للإبداع والتنوّع والتسامح، وللتصالح كذلك مع عصرنا الذي ننتمي إليه إن طوعا أو كرها، والذي يتوفّر على فرص حقيقيّة لتجسيم روح ذلك النصّ المؤسس، أعني به القرآن الكريم.

الورقة الأولى خصصناها لتدارس قضية العلمانية وعلاقتها بالإسلام. ولا مفرّ في الواقع من طرح هذه القضية من قبل أصحاب الوعي الشّهودي، ولا بدّ من حسمها بطريقة تتوافق مع روح الإسلام الذي لا يعترف بأيّ سلطة دينية إلاّ لله عزّ وجلّ ، وهذه السلطة سلطة حاضرة في الضمير الفردي فحسب، ولا يمكن بأيّ حال من الأحوال أن تمثّل من قبل فرد حاكم (ملك، أمير، خليفة...الخ) أو جماعة نافذة (فقهاء، مؤسسة إفتاء، مجلس ديني...الخ).

أمّا الورقة الثانية، فقد خصصناها لبناء مفهوم الديمقراطية في فكرنا العربي المعاصر. ولقد فعلنا ذلك بمنطق ختم النبوّة، حيث لا ديمقراطية في النّبوّة وإنّما شورى فحسب.
وفي الورقة الثّالثة لقضية حقوق الإنسان، ضمن منطق تطوّري للعقل الفقهي الإسلامي ومن خلفية نقدية له في نفس الوقت. ودعونا إلى التقدّم خطوة أخرى بعد مرحلة الفهم المقاصدي للشريعة، في إطار إنسيّة إسلامية ختمية-افتتاحية: تختم النبوّة في الوعي الإسلامي المعاصر وتستأنف افتتاح عهد الإنسان الذي بدأه ابن خلدون، الذي قطع مع تهويمات العقل الكلامي اللاهوتية وتهويمات العقل الفلسفي الماورائية معا.

أما الورقة الرابعة، فهي تمثل مناقشة لأطروحة "الدين في الديمقراطية" للفيلسوف الفرنسي مارسيل غوشيه. وقد أردنا من وراء هذه المناقشة اختبار مجمل المفاهيم والحلول التي اقترحناها في الورقات الثلاث الأولى، ولنفحص مدى توافق أطروحتنا عن "العلمانية المؤمنة" مع "الإيمان العلماني" الذي يقترحه علينا غوشيه.

هذه الورقات الأربع نقدّمها للدفع باتجاه حوار متجدّد مع مختلف الأطراف في ساحة المجتمع المدني داعين إلى كلمة سواء بيننا جميعا: ألاّ يطغى أحدنا على الآخر، وألاّ يصادر حقّه في الاختلاف، وأن نجعل مصلحة الوطن فوق كلّ اعتبار.
لكن قبل أن نشرع في تقديم هذه الورقات، نودّ أن نشرح وإن بإيجاز معنى "الحداثة السياسية". جاء في كتاب "الدين في الدّيمقراطية" لمارسيل غوشيه أن هذا المصطلح يعني:«الفصل بين المجتمع المدني والدولة»(ص. 156). لكنا نريد أن ننبّه إلى أنّ هذا الفصل لا يعني القطيعة، بل من الضروري أن توجد علاقة تفاعل وتكامل بين هذين الطرفين شريطة ألاّ يلغي أحدها الآخر .
وعموما نحن نقصد بمصطلح"الحداثة السياسية"، تطبيق أساسيْ الحداثة في مجال السياسة. وهذان الأساسان هما الفرد والعقلانية. الفرد هو المواطن وحقوقه الإنسانية والعقلانية هي تجنب الحكم الفردي والقرارات العشوائية، بانتهاج الديمقراطية.

0 commentaires:

إرسال تعليق