الثورة التونسية : من ملحمية الشارع إلى ركح السياسيين
محمد الجابلي
لئن اتفق الجميع على تعريف الثورات في التاريخ فإن الثورة التونسية بجديدها ستظل مستعصية على التعريف، بل يجوز الخلاف في جوهريتها وتحف بها اسئلة شتى، وكلما زاد شهر من عمرها إلا وزاد معه لبس تعريفها، فهي ليست ثورة لأنها لم تنجز المأمول من حدها، وهي ليست انتفاضة لأنها زادت عن المعروف في حد الانتفاضات، ويمكن ان نقول انها انتفاضة تنحو بهدفها منحى الثورة وبما انها كذلك خضعت لمسيرة ملتبسة فيها ابعاد درامية من فصول تأزم وانفراج في ملحمة حدثية تتواصل أحداثها بين النقيض ونقيضه ضمن تجاذب لقوى متعددة مرحلتان تختزلان في فصلين: الأول ثوري ومجاله الشارع بتعدد الفاعلين والثاني سياسي وفضاؤه الركح المتقلص بتعدد الممثلين فيه.
الفصل الاول ملحمة الشارع: يمكن ان نتحدث عن نقاء ثوري في الفصل الاول، نعني بذلك موجة الغضب العارم التي وحدت بين الفئات والطبقات والجهات، حيث خرج الآلاف من كل الاعمار في زخم احتجاجي حطم حاجز الخوف، ووحد الشعارات الرافضة لنظام استبد من خلال العصابات التي طالت كل شيء حتى افسدت البلاد والعباد، فالأغنياء عانوا من الابتزاز المنظم والفقراء عانوا من التهميش والبطالة والطبقة الوسطى فقدت كل أمل في حياة كريمة وبات الخوف من المستقبل موحدا لكل الفئات ... هذه الملحمة التي اربكت الجهاز الاعلى في النظام آلت كما هو معلوم الى هروب الرئيس، ذلك الهروب السريع الذي حقن الدماء لكنه ظل غامضا بما حف به من ملابسات، ذلك ان 'بن علي' المتمترس خلف جهاز بوليسي ومخابراتي قوي والمدعوم تقليديا من قوى خارجية، ليس في أجندته التسليم السريع أمام احتجاجات شعبية مهما كانت قوتها.
وإزاء ما تقدم جاز السؤال عن حلقة خفية نفخت في نار الإحتجاج تضخيما ويسرت هروب بن علي، من الفرضيات التي قد ترضي غرورنا ـ كوطنيين ـ والتي روج لها الاعلام 'الثوري جدا' أن يكون الجيش هو الواصل لنار الاحتجاج بان رفض اوامر قمع المحتجين فانكسر النظام وهرب زعيمه، فرضية جميلة من روافد ثوراتنا الجديدة لكنها تسقط امام المعلوم من هيكلة الجيش الوطني وتهميشه عقودا طويلة بل افراغه من كل مضامين القوة والتفرد لصالح الجهاز البوليسي المتغول على الجميع. لذلك نستبعد فرضية وقوف الجيش في اللحظة الأخيرة في وجه رأس السلطة، والأرجح ان قوى خفية هي التي رتبت الأمور ، وهذه القوى الخفية قد تظهر لاحقا في الانتقال من الفصل الاول الى الفصل الثاني من الثورة ونعني به الركح الثوري بتنازع وتقاسم الادوار بين الفاعلين الذين سيستلمون المشعل من الشارع ويدخلون به الركح الممسرح للاحق الثورة ومستجداتها...
الفصل الثاني: في ركح السياسيين، تواصلت ملحمة الشارع في امتداد مذهل بعد فرار الرئيس، وبعد التوحد في المسيرات والشعارات جاء التوحد في حس وطني غير مسبوق من خلال الوعي بالمصير المشترك، تجسد ذلك التوحد في ابهى مظاهره التلقائية في لجان الاحياء ومجالس حماية الثورة التي انتشرت في كل شارع بل في كل قرية تواجه بقايا مرتزقة الرئيس الهارب من قناصة وتجمعين متنفذين وظفوا كل طاقاتهم لبث الرعب والفوضى والارباك، وكانت هذه الايام الأولى من الثورة الأكثر عمقا وتصميما يتمظهر من خلالها وعي الشعوب فعلا جماعيا خلاقا... ولو قدر لتلك الجذوات ان تتواصل لجاز الحديث عن ثورة تونسية تختط سبلا جديدة في التاريخ البشري، عكست تلك المجالس بتفرعاتها حسا مدنيا غير مسبوق تضامنت فيه الفئات والطبقات بتوحد المصير ازاء خطر مشترك، فنسي الجياع جوعهم وتناست جحافل الشباب البطالة والعطالة وبعض الحقد الدفين وانخرط الجميع في مد تضامني تلقائي يثير الإعجاب، وفي مقابل ذلك بدأت مسرحة الفعل الثوري بالبحث السريع والتلقائي في ظاهره عن بديل يجنب الفراغ فكانت الحكومة الاولى بداية المشهد المدروس لمواصلة سلطة بلا رأس في مجابهة ثورة هي كذلك بلا رأس، لكن تدبير المشهد الاول لم يبتعد عن مزاعم الزعيم الهارب لتوه بل كانت تنفيذا لوصاياه أو لنواياه، وكان لدخول بعض وجوه المعارضة في تلك الحكومة الأثر السيىء في الشارع العريض لكن المشهد كان قد بدأ رغم ذلك، وتحول الحدث الثوري بآليات جديدة من زحام الشارع الى زحام آخر فيه أدوار ومشاهد وفصول، فيها من الفرجوية الشيء الكثير بقدر ما فيها كذلك من مقتضيات المسرحة كالركح والديكور والتزويق ...وتوزيع الادوار بين ممثلين قداما وآخرين جدد يعضدهم كومبارس يردد بعض المقولات في الكواليس ومنها وسائل الاعلام...
بدأ مسرحة الفعل الثوري من مدخل اول لاقى هوى عند الطبقة الوسطى المعروفة بمصالحها لقليلة وانتهازيتها الاكثر، وتعالت دعوات الخوف من الفراغ الدستوري ثم دعوات عودة الهدوء والحفاظ على مكتسبات الحياة المدنية وتواصل عمل المؤسسات، ثم بدأت آلة الخبث في نزع اسلحة الشارع تدرجا ومن اولها تهميش مجالس حماية الثورة ثم افراغها بانسحاب بعض مكوناتها من جمعيات واحزاب ونقابات في سبيل الالتحاق بهيئة منصبة كانت الفخ الاول لوأد الحس الجماهيري وتطلعاته من اجل ديمقراطية ذات تمثيل شعبي...وهذه الهيئة كانت الطليعة الاولى التي من خلالها استطاعت الحكومة المؤقتة امتصاص الاحتجاج والعودة التدريجية الى تجريم الشارع ومجمل تحركاته التي جوبهت لاحقا بقمع بوليسي لا يقل خطورة وضراوة عن قمع بن علي...
وكانت هذه الهيئة الفخ الاول المنصوب للأحزاب حيث هرع البعض للإنتصاب فيها بحثا عن شراكة مزعومة فاعلة ودعاية مجانية لظهور ممكن واستفادة مستقبلية، فكان الانقسام بين الشارع السياسي ـ على هشاشته ـ وبقيت احزاب أخرى تلوذ بالنقد وتسعى الى تفعيل جديد يكاد يكون مستحيلا للشارع الذي بات متفرجا في مجمله على انعكاس مسرحي لفعل الثورة، وسادت مصطلحات مسطحة عن الثورة وآلياتها والفاعلين فيها كلها تخاطب الشارع وتروم وده بعد ان سحبت منه البساط...
أضحى الشارع متفرجا وانطوت مجمل القوى الحركية الثورية، لأن الركح لا يستوعبها ذلك الركح العريض في ظاهره فتحت ابوابه لأحزاب كانت مهمشة وأغلبها مجمد يقتصر نشاطة على بعض المناسبات القليلة ولا يتجاوز عدد رواده في النفير الأكبر بعض مئات، غرر بهذه الاحزاب المخدوعة بالمنابر الجديدة ووهم الشراكة في صنع المصير، فازداد عدد المنظرين وقل عدد الثائرين...
نعود الى القوى الخفية ـ تلك الفاعلة ـ في الخفاء في اللحظات الاخيرة قبل هروب الدكتاتور والفاعلة كذلك من خلف الستار في مسرحة الفعل الثوري واخراجه، ذلك الاخراج الماكر بين نمطين مسرحيين: الأول كلاسيكي يعتمد لعبة الإيهام والثاني ملحمي برشتي يعتمد لعبة المشاركة المفتوحة واشراك الجمهور في نظام اللعبة، فكلما كانت الخشية من الشارع ازداد ذلك التشريك وكلما غفا الشارع ازداد التفرد بالأدوار...
فكانت لعبة حل التجمع وهو الحزب الاوحد زمن الدكتاتور، مشهدا متقنا في بدايته ألهب الحماس بل انتزع التصفيق والتصفير، ثم تدخلت القوى الخفية تلك لتجعل منه حدثا دراميا لا ثوريا بامتياز، إذ سرعان ما بادر التجمعيون بارتداء عباءات جديدة مكنتهم من الالتحاق بالمشهد الثوري، لأن الجهاز المتنفذ الذي بقيت قلاعه حصينة ونعني به وزارة الداخلية، أغرقت المشهد بعشرات الاحزاب ذات الأسماء المختلفة التي تجاوز عددها الاربعين للرعيل الثاني من صفوف التجمعين الغاضبين، وكانت الحصيلة فصلا مموها لصالح التجمع وبقاياه الذين تنكروا في أثواب العدالة والتنمية والوطنية والدستورية والبورقيبية القديمة والجديدة.
وفي هذا الفصل مشهد آخر تمثل في إغراق البلاد بأكثر من مئة حزب تداخلت فيها الاسماء واختفت منها البرامج الجادة، وانتظمت الجوقة في التعريف بمشهد سياسي جديد تميعت فيه السياسة وزادت القطيعة بين الركح والجمهور الذي سئم الخطاب المفرغ في حين ان اوزار الحياة تزداد ثقلا وان الواقع يزداد بؤسا...
نعود الى الهيئة العليا لتحقيق اهداف الثورة هذه التي تشرع ما لايشرع وهي طليعة الفعل الممسرح، حيث انبرى الفاعلون فيها بوصاية ومباركة من القوى الخفية في تحويل أوجه الصراع بين الحاضر الثوري المستجد والماضي الدكتاتوري القريب واستبداله بصراع آخر بين قوى الحداثة والقوى السلفية، والقصد من ذلك سد السبل أمام النهضة وسائر الاحزاب الدينية حتى لا تستفرد بالمشهد السياسي لاحقا، وكان من ذكاء هذه الهيئة وصلاحياتها الظاهرة والخفية الاثر الواضح في محاصرة الحركات ذات المرجعية الدينية وابتداع مالم يسبق في العالم مثل إقرار مبدأ التناصف بين الرجال والنساء واعتماد مبدأ افضل البقايا في القوائم الانتخابية حتى يكون التقاسم أكيدا بين الاحزاب في مستقبل الحياة السياسية، ونجحت هذه الهيئة الى حد كبير في التذكير بامكانية ضياع مكاسب الحداثة واستعادة الخوف من توظيف الدين في اللعبة السياسية، لكن في مقابل ذلك النجاح النسبي دبت عدم الثقة في المنجز السياسي انطلاقا من ذلك التوظيف المزدوج لإشكاليات صراع تبتعد عن الواقع ببعده الآني لتثير قضايا إيديولوجية تحلق بعيدا عن ذلك الواقع..
ولا بد من مشهد يستعيد هيبة الدولة، تلك التي صنعت من بقايا العهدين الماضيين فانبرى الباجي قائد السبسي يوزع دهاءه بدءا من خطبه المستفزة مرورا بترويض أحزاب الموالاة في هيئته المنصبة وصولا الى لعبة تلميع الجهاز الاقوى وهو الجهاز البوليسي من خلال نسخ فصول وقصص مختلقة عن بطولات وهمية لذلك الجهاز في القبض على الفارين من آل بن علي، وبالتزامن مع ذلك يختفي ملف القناصة وتتعرقل المحاكمات ويتمرد المطلوبون ويعلنون عصيانهم...
ويطل الزعيم المؤقت بين الحين والآخر مهددا ومتوعدا من خلال التلويح بالانفلات الامني وتعطل الاقتصاد وإمكانية تعطل الرواتب وهذا طبعا ما يخيف الطبقة الوسطى فتنبري جوقتها الحزبية في الدفاع عن تلك المقولات ...وخلال ذلك يفرج عن البعض ويهرب بعض من كان في السجن من اعوان بن علي...مشاهد كثيرة يتدرب السياسيون على أداء أدوارهم فيها فيما الشارع العريض يغرق من جديد في لامبلاة توهم بالغياب ويطل من تحت رماد الأشهر الأخيرة جمر ثورة لم تكتمل، ثورة قد تصنع ما لم تصنعه الانتفاضة الأولى، ثورة قد تعصف بالركح واللاعبين فيه وتستعيد جذوة الفعل...
' كاتب وروائي من تونس
الفصل الاول ملحمة الشارع: يمكن ان نتحدث عن نقاء ثوري في الفصل الاول، نعني بذلك موجة الغضب العارم التي وحدت بين الفئات والطبقات والجهات، حيث خرج الآلاف من كل الاعمار في زخم احتجاجي حطم حاجز الخوف، ووحد الشعارات الرافضة لنظام استبد من خلال العصابات التي طالت كل شيء حتى افسدت البلاد والعباد، فالأغنياء عانوا من الابتزاز المنظم والفقراء عانوا من التهميش والبطالة والطبقة الوسطى فقدت كل أمل في حياة كريمة وبات الخوف من المستقبل موحدا لكل الفئات ... هذه الملحمة التي اربكت الجهاز الاعلى في النظام آلت كما هو معلوم الى هروب الرئيس، ذلك الهروب السريع الذي حقن الدماء لكنه ظل غامضا بما حف به من ملابسات، ذلك ان 'بن علي' المتمترس خلف جهاز بوليسي ومخابراتي قوي والمدعوم تقليديا من قوى خارجية، ليس في أجندته التسليم السريع أمام احتجاجات شعبية مهما كانت قوتها.
وإزاء ما تقدم جاز السؤال عن حلقة خفية نفخت في نار الإحتجاج تضخيما ويسرت هروب بن علي، من الفرضيات التي قد ترضي غرورنا ـ كوطنيين ـ والتي روج لها الاعلام 'الثوري جدا' أن يكون الجيش هو الواصل لنار الاحتجاج بان رفض اوامر قمع المحتجين فانكسر النظام وهرب زعيمه، فرضية جميلة من روافد ثوراتنا الجديدة لكنها تسقط امام المعلوم من هيكلة الجيش الوطني وتهميشه عقودا طويلة بل افراغه من كل مضامين القوة والتفرد لصالح الجهاز البوليسي المتغول على الجميع. لذلك نستبعد فرضية وقوف الجيش في اللحظة الأخيرة في وجه رأس السلطة، والأرجح ان قوى خفية هي التي رتبت الأمور ، وهذه القوى الخفية قد تظهر لاحقا في الانتقال من الفصل الاول الى الفصل الثاني من الثورة ونعني به الركح الثوري بتنازع وتقاسم الادوار بين الفاعلين الذين سيستلمون المشعل من الشارع ويدخلون به الركح الممسرح للاحق الثورة ومستجداتها...
الفصل الثاني: في ركح السياسيين، تواصلت ملحمة الشارع في امتداد مذهل بعد فرار الرئيس، وبعد التوحد في المسيرات والشعارات جاء التوحد في حس وطني غير مسبوق من خلال الوعي بالمصير المشترك، تجسد ذلك التوحد في ابهى مظاهره التلقائية في لجان الاحياء ومجالس حماية الثورة التي انتشرت في كل شارع بل في كل قرية تواجه بقايا مرتزقة الرئيس الهارب من قناصة وتجمعين متنفذين وظفوا كل طاقاتهم لبث الرعب والفوضى والارباك، وكانت هذه الايام الأولى من الثورة الأكثر عمقا وتصميما يتمظهر من خلالها وعي الشعوب فعلا جماعيا خلاقا... ولو قدر لتلك الجذوات ان تتواصل لجاز الحديث عن ثورة تونسية تختط سبلا جديدة في التاريخ البشري، عكست تلك المجالس بتفرعاتها حسا مدنيا غير مسبوق تضامنت فيه الفئات والطبقات بتوحد المصير ازاء خطر مشترك، فنسي الجياع جوعهم وتناست جحافل الشباب البطالة والعطالة وبعض الحقد الدفين وانخرط الجميع في مد تضامني تلقائي يثير الإعجاب، وفي مقابل ذلك بدأت مسرحة الفعل الثوري بالبحث السريع والتلقائي في ظاهره عن بديل يجنب الفراغ فكانت الحكومة الاولى بداية المشهد المدروس لمواصلة سلطة بلا رأس في مجابهة ثورة هي كذلك بلا رأس، لكن تدبير المشهد الاول لم يبتعد عن مزاعم الزعيم الهارب لتوه بل كانت تنفيذا لوصاياه أو لنواياه، وكان لدخول بعض وجوه المعارضة في تلك الحكومة الأثر السيىء في الشارع العريض لكن المشهد كان قد بدأ رغم ذلك، وتحول الحدث الثوري بآليات جديدة من زحام الشارع الى زحام آخر فيه أدوار ومشاهد وفصول، فيها من الفرجوية الشيء الكثير بقدر ما فيها كذلك من مقتضيات المسرحة كالركح والديكور والتزويق ...وتوزيع الادوار بين ممثلين قداما وآخرين جدد يعضدهم كومبارس يردد بعض المقولات في الكواليس ومنها وسائل الاعلام...
بدأ مسرحة الفعل الثوري من مدخل اول لاقى هوى عند الطبقة الوسطى المعروفة بمصالحها لقليلة وانتهازيتها الاكثر، وتعالت دعوات الخوف من الفراغ الدستوري ثم دعوات عودة الهدوء والحفاظ على مكتسبات الحياة المدنية وتواصل عمل المؤسسات، ثم بدأت آلة الخبث في نزع اسلحة الشارع تدرجا ومن اولها تهميش مجالس حماية الثورة ثم افراغها بانسحاب بعض مكوناتها من جمعيات واحزاب ونقابات في سبيل الالتحاق بهيئة منصبة كانت الفخ الاول لوأد الحس الجماهيري وتطلعاته من اجل ديمقراطية ذات تمثيل شعبي...وهذه الهيئة كانت الطليعة الاولى التي من خلالها استطاعت الحكومة المؤقتة امتصاص الاحتجاج والعودة التدريجية الى تجريم الشارع ومجمل تحركاته التي جوبهت لاحقا بقمع بوليسي لا يقل خطورة وضراوة عن قمع بن علي...
وكانت هذه الهيئة الفخ الاول المنصوب للأحزاب حيث هرع البعض للإنتصاب فيها بحثا عن شراكة مزعومة فاعلة ودعاية مجانية لظهور ممكن واستفادة مستقبلية، فكان الانقسام بين الشارع السياسي ـ على هشاشته ـ وبقيت احزاب أخرى تلوذ بالنقد وتسعى الى تفعيل جديد يكاد يكون مستحيلا للشارع الذي بات متفرجا في مجمله على انعكاس مسرحي لفعل الثورة، وسادت مصطلحات مسطحة عن الثورة وآلياتها والفاعلين فيها كلها تخاطب الشارع وتروم وده بعد ان سحبت منه البساط...
أضحى الشارع متفرجا وانطوت مجمل القوى الحركية الثورية، لأن الركح لا يستوعبها ذلك الركح العريض في ظاهره فتحت ابوابه لأحزاب كانت مهمشة وأغلبها مجمد يقتصر نشاطة على بعض المناسبات القليلة ولا يتجاوز عدد رواده في النفير الأكبر بعض مئات، غرر بهذه الاحزاب المخدوعة بالمنابر الجديدة ووهم الشراكة في صنع المصير، فازداد عدد المنظرين وقل عدد الثائرين...
نعود الى القوى الخفية ـ تلك الفاعلة ـ في الخفاء في اللحظات الاخيرة قبل هروب الدكتاتور والفاعلة كذلك من خلف الستار في مسرحة الفعل الثوري واخراجه، ذلك الاخراج الماكر بين نمطين مسرحيين: الأول كلاسيكي يعتمد لعبة الإيهام والثاني ملحمي برشتي يعتمد لعبة المشاركة المفتوحة واشراك الجمهور في نظام اللعبة، فكلما كانت الخشية من الشارع ازداد ذلك التشريك وكلما غفا الشارع ازداد التفرد بالأدوار...
فكانت لعبة حل التجمع وهو الحزب الاوحد زمن الدكتاتور، مشهدا متقنا في بدايته ألهب الحماس بل انتزع التصفيق والتصفير، ثم تدخلت القوى الخفية تلك لتجعل منه حدثا دراميا لا ثوريا بامتياز، إذ سرعان ما بادر التجمعيون بارتداء عباءات جديدة مكنتهم من الالتحاق بالمشهد الثوري، لأن الجهاز المتنفذ الذي بقيت قلاعه حصينة ونعني به وزارة الداخلية، أغرقت المشهد بعشرات الاحزاب ذات الأسماء المختلفة التي تجاوز عددها الاربعين للرعيل الثاني من صفوف التجمعين الغاضبين، وكانت الحصيلة فصلا مموها لصالح التجمع وبقاياه الذين تنكروا في أثواب العدالة والتنمية والوطنية والدستورية والبورقيبية القديمة والجديدة.
وفي هذا الفصل مشهد آخر تمثل في إغراق البلاد بأكثر من مئة حزب تداخلت فيها الاسماء واختفت منها البرامج الجادة، وانتظمت الجوقة في التعريف بمشهد سياسي جديد تميعت فيه السياسة وزادت القطيعة بين الركح والجمهور الذي سئم الخطاب المفرغ في حين ان اوزار الحياة تزداد ثقلا وان الواقع يزداد بؤسا...
نعود الى الهيئة العليا لتحقيق اهداف الثورة هذه التي تشرع ما لايشرع وهي طليعة الفعل الممسرح، حيث انبرى الفاعلون فيها بوصاية ومباركة من القوى الخفية في تحويل أوجه الصراع بين الحاضر الثوري المستجد والماضي الدكتاتوري القريب واستبداله بصراع آخر بين قوى الحداثة والقوى السلفية، والقصد من ذلك سد السبل أمام النهضة وسائر الاحزاب الدينية حتى لا تستفرد بالمشهد السياسي لاحقا، وكان من ذكاء هذه الهيئة وصلاحياتها الظاهرة والخفية الاثر الواضح في محاصرة الحركات ذات المرجعية الدينية وابتداع مالم يسبق في العالم مثل إقرار مبدأ التناصف بين الرجال والنساء واعتماد مبدأ افضل البقايا في القوائم الانتخابية حتى يكون التقاسم أكيدا بين الاحزاب في مستقبل الحياة السياسية، ونجحت هذه الهيئة الى حد كبير في التذكير بامكانية ضياع مكاسب الحداثة واستعادة الخوف من توظيف الدين في اللعبة السياسية، لكن في مقابل ذلك النجاح النسبي دبت عدم الثقة في المنجز السياسي انطلاقا من ذلك التوظيف المزدوج لإشكاليات صراع تبتعد عن الواقع ببعده الآني لتثير قضايا إيديولوجية تحلق بعيدا عن ذلك الواقع..
ولا بد من مشهد يستعيد هيبة الدولة، تلك التي صنعت من بقايا العهدين الماضيين فانبرى الباجي قائد السبسي يوزع دهاءه بدءا من خطبه المستفزة مرورا بترويض أحزاب الموالاة في هيئته المنصبة وصولا الى لعبة تلميع الجهاز الاقوى وهو الجهاز البوليسي من خلال نسخ فصول وقصص مختلقة عن بطولات وهمية لذلك الجهاز في القبض على الفارين من آل بن علي، وبالتزامن مع ذلك يختفي ملف القناصة وتتعرقل المحاكمات ويتمرد المطلوبون ويعلنون عصيانهم...
ويطل الزعيم المؤقت بين الحين والآخر مهددا ومتوعدا من خلال التلويح بالانفلات الامني وتعطل الاقتصاد وإمكانية تعطل الرواتب وهذا طبعا ما يخيف الطبقة الوسطى فتنبري جوقتها الحزبية في الدفاع عن تلك المقولات ...وخلال ذلك يفرج عن البعض ويهرب بعض من كان في السجن من اعوان بن علي...مشاهد كثيرة يتدرب السياسيون على أداء أدوارهم فيها فيما الشارع العريض يغرق من جديد في لامبلاة توهم بالغياب ويطل من تحت رماد الأشهر الأخيرة جمر ثورة لم تكتمل، ثورة قد تصنع ما لم تصنعه الانتفاضة الأولى، ثورة قد تعصف بالركح واللاعبين فيه وتستعيد جذوة الفعل...
' كاتب وروائي من تونس
المصدر
القدس العربي
0 commentaires:
إرسال تعليق