تونس – بناء نيوز-رضا التمتام
يُمثل التيار القومي بتونس أحد الأركان الأربعة للحركة الفكرية والسياسية بالبلاد، ورغم عراقة هذا التيّار الذّي يضمّ بين صفوفه رموزا نضالية بارزة منذ منتصف القرن المنقضي فإنه يعيش اليوم، قُبيل انتخابات مملكة "التأسيسي"، أسوأ فتراته التاريخية، إذ خسر أجزاء كبيرة من شعبيته نتيجة للتشتت الحاصل في مركباته إضافة طبعا إلى تهاوي دعائمه المشرقية، فبعد سقوط العراق ها هو اليوم ربيع الثورات قد عصف بأمين العروبة "القذافي" في ليبيا ويبدو أن النهاية قد قربت بالنسبة لــ"بعثية" أسد سوريا و"قومية" صالح اليمن.
فماهي حظوظ هدا التيار في انتخابات القادمة؟ وماهي إحداثيات تموقعه اليوم في الخارطة السياسية التونسية خاصّة في ظل التجاذبات الاقليمية المسجّلة؟ وما أسباب حال التشرذم الحاصل في هياكله؟ وهل حقا لم يعد لهذا التيّار ضرورة وجودية كما يرى عدد من الليبراليين؟
... تعود جذور الاتجاه القومي العروبي في تونس إلى بدايات الخمسينات مع تشكّل الحركة الوطنية المسلّحة ضد الاستعمار، وكان شديد التأثر بالنسمات القومية التي تشكلت مطلع القرن المنقضي خاصة في مصر والجزيرة العربية وكان رواد هذا الفكر بتونس ينهالون من أباطرة القومية بمختلف ألوانها في المشرق على غرار المفكرين قسطنطين زريق وميشال عفلق والقادة جمال عبد الناصر وصدام حسين.
ومثّل مناضلو هذا التوجه في تونس من رواد الحركة اليوسفية أساسا جبهة معارضة قويّة لمحاولات التغريب التي انتهجاه الرئيس الأسبق الحبيب بورقيبة مما أدّى إلى قمعهم بعنف شديد، في حين اعتمد زين العابدين علي سياسة الاحتواء والإغراء لتشتيت هذا التيار.
التشتت التنظيمي افقده حجمه قبيل الإنتخابات:
يصف الملاحظون اليوم التيار القومي بأقل التيّارات حظوظا في انتخابات المجلس التأسيسي بسبب فقدانه لجزء كبير من حضوره لدى المواطن التونسي، وبسبب حالة التشرظي بين مكونات هذا التيار وتجزئته الى مجموعات مصغرّة غير قادرة على التعامل مع متقلبات "اللعبة السياسية". وفي هذا قال أحمد الكحلاوي رئيس اللجنة الوطنية لمقاومة التطبيع والصهيونية إن الأحزاب القومية تمرّ بوضع صعب اليوم بسبب تشتتها التنظيمي والتعددية السلبية التي أضرّت بها وهو ما أفضى إلى ضعف أدائها خاصة في ظلّ الصراعات على الزعامات.
وعلى عكس الليبراليين والاسلامين والاطراف اليسارية لم تقدر الأحزاب القومية على استقطاب عدد كبير من الجماهير التونسية في فترة إعادة التشكل الحزبي منذ تاريخ 14 جانفي. ويرى العجمي الوريمي المفكر والقيادي في حركة النهضة إن الخلافات بين مكوّنات المشهد القومي في تونس ليست جوهرية "ولو ألمحت بذلك" بل هي خلافات زعمات وتجاذبات شخصية أثرت على أدائه ولن يكون حضوره في المجلس الـتأسيسي إلا بقدر حجمه اليوم لكن بمقتضى قانون انتخابات (أعلى البواقي والمقاعد الخاصة) يمكن أن يكون له حضور مهم لهذا التيّار.
سقوط القذافي والأسد ضربة موجعة:
ولئن بثّ ربيع الثورات العربية روح الوجود في الأحزاب القومية في تونس ومصر بعد سنوات القمع فإن هذا الربيع وبِتَهَاوِي النظام الليبي والسوري واليمني جعل الأحزاب القومية التونسية المرتبطة ارتباطا وثيقا بالتوجهات القومة المشرقية تعيش موقفا محرجا ووضعا صعبا خاصّة بالنسبة لحزب البعث في تونس الذي رفض أمينه العام عثمان بالحاج أن يشيد بالثورة السورية. كما أن بعض الأحزاب القومية دعّمت كتائب القذافي قبل سقوط نظامه على مضض من أغلبية الشعب التونسي المساند للثورة الليبية إلى جانب كراهية الشعب التونسي طبعا لتواطئ الحزب القومي الوحيد المعترف به خلال حقبة المخلوع زين العابدين بن علي (الاتحاد الديمقراطي الوحدوي) مع سياسيات بن على ضمن مع عُرف بـ"المعارضة الديكورية". وهو ما أفقد الحركة القومية كثيرا من أنصارها خاصّة في صفوف الشباب.
ومن المعروف في كواليس ساحة النشاط السياسي أن كثيرا من ممثلي الحركة القومية التونسية كانوا يترددون على طرابلس والقاهرة ودمشق خاصة إضافة إلى بغداد سابقا لتلقي جميع أنواع الدعم الفكري والمعنوي والمادي أيضا.
قمع بن علي وتآمر الغرب و"مجازر" بورقيبة:
وذكر العجمي الوريمي أن العائلة القومية عائلة عميقة وتاريخها يمتدّ على نصف قرن "وهي ليست وليدة اليوم وليست دخيلة على الثقافة التونسية" واشار إلى القمع الشديد التي عانته هذه الحركة من محاكمات سياسية قاسية وصلت الى الإعدام. وكانت بداياتها مع الحركة اليوسفية في عهد بورقيبة الذي قمع بشدة كل من عارضوه من اليوسفيين خاصة في الجنوب الشرقي التونسي.
أنيس العميري أحد الشباب الناشطين السياسيين المطّلع على العائلة القومية قال في تصريحات لبناء نيوز إن التحديات الخارجية كان لها دور كبير في قمع هذا التيّار الذي جعل أولى أولوياته الوحدة وتحقيق استقلالية الرأي العربي وهوما لم يكن يرضي القوى العظمى التي واجهت المدّ القومي العربي بطرق مختلفة. وهو ما أكده الناشط أحمد الكحلاوي عندما أشار إلى الدور الصهيوني والأمريكي والغربي عموما في تشتيت الوحدة العربية من خلال قمع القادة القوميين على غرار "الشهيد صدام حسين".
الفصائل القومية التونسية:
يُعرّف المفكر الاستراتيجي عزمي بشارة القومية العربي كالتالي "القومية العربية ليست رابطة دم ولا عرق، بل هي جماعة متخيلة بأدوات اللغة ووسائل الاتصال الحديثة تسعى إلى أن تصبح أمة ذات سيادة" ويتفق أغلب المفكرين القوميين على غرار قسطنطين زريق وساطع الحصري وزكي الأرسوزي ومحمد عزة دروزة وعبد الرحمان عزام أن رأس سنام الفكر القومي هو توحيد العالم العربي من المحيط إلى الخليج و بناء دولة عربية موحّدة ذات قرار نافذ بين الأمم.
إلّاّ أن هذا الاتفاق على مستوى الهدف سرعان ما يختفي في غياهب الصراعات المنهجية والتشتت الفكري الضيق بين القادة وفي حرب الزعامات وهو ما جعل النواة القومية تتحول الى كيانات جزئية مشتتة بين الكتلتين الرئيستين البعثية والناصرية، فالساحة التونسية اليوم مثلا مكوّنة من أكثر من فصيل قومي على غرار الطليعة والشعب والبعث بشقيه السوري والعراقي والتيار الاشتراكي الناصري والجبهة القومية التقديمة والطلبة القومين الماركسيون والبعثيون والناصريون الطلائع والوحدة واللجان الثورية وهو ما جعل التونسي البسيط يطرح سؤالا كلاسيكيا لطالما أحرج القوميين "كيف لهؤلاء أن يوحدوا الوطن العربي في حين أنهم عجزوا حتى عن توحيد أنفسهم؟"
المراجعة الفكرية حاجة ضرورية ومستعجلة:
يرى الباحث بالقضايا العربية الإسلامية سامي براهم أن أحد أسباب أفول نجم هذا التيّار في تونس هو عدم قيامه بمراجعة ذاتية متجذرة وفي صلب مناهج تعامله مع واقعه اليوم. وهو ما يعتبره الألية الوحيدة كي يستطيع هذا التيّار إعادة تنظيم صفوفه خاصّة في ما يتعلق بنظرته للدولة القطرية والجدل المتعلق بالأولويات الوطنية والولاءات الخارجية.
وباستثناء قلّة قليلة من القوميين العرب لم تقم هذه التيارات بمراجعات معمّقة تطرح فيها أسباب فشلها. وفي هذا السياق يقول خالد الكريشي رئيس حركة الشعب الوحدوية التقدمية إن الأولوية اليوم في تونس بناء دولة ديمقراطية وطنية متجذّرة في الهوية العربية تسعى إلى تحقيق الوحدة العربية وفق مناهج جديدة. وحاول الكريشي القيام بحركة توحيدية للعائلة القومية إلا أنه اصطدم بتصلّب مواقف العديد من مكونات العائلة القومية.
مفارقة المناداة بالتحرّر ورفض الحرية:
تستمد القومية وجودها من فكرة تحرير الوطن العربي وهي تعتمد في ذلك مناهج مختلفة قد تتعارض مع قيم الحريّة والعدل على غرار الثورات المسلحة والانقلابات، كما أن النهج القومي التونسي لم يبين استعدادا كبيرا للقبول بالديمقراطية وهو ما جعله في تصادم مع أبرز متطلبات الثورة التونسية الداعية إلى الحرية والعدل والمساوة إلى جانب تحرير فلسطين وتحقيق الوحدة المغاربية والعربية والحفاظ على الهوية العربية الإسلامية. فاحمد الكحلاوي مثلا ينادي بتجديد الفكر القومي العربي على أسس جديدة تكرّس الديمقراطية وتجذّر الهوية التونسية في عمقها العربي الاسلامي وهو ما أّكّده العجمي الوريمي الذي اعتبر أن ما يأتي من الشرق القومي لا يمكن ان يتلاءم كليّا مع الواقع التونسي وهو ما يفرض على ابناء هذا التيار ايجاد منظرين تونسيين خاصة وأن الوحدة العربية لن تتم إلا بفعل إرادة شعبية عبر صناديق الاقتراع وبذبك يمكنها ان "تحافظ على الاتجاه الأساسي في الأمة وهو العربي الاسلامي".
تأثيرات التبعية السوفياتية:
من المصائب التي أثّرت فعلا على تواجد الفكر القومي في العالم العربي بصفة عامة وفي تونس على وجه الخصوص ولائه التام للاتحاد السوفياتي خاصة في فترة الستينات والسبعينات حتى أنه ثمة من وصف الأقطار العربية القومية يوما ما بمراكز مخابرات سوفياتية وهو ما جعل رهانها مرتبط بقوى خارجية لم تتردد في استهداف العالم العربي _ روسيا ودعم الكيان الصهيوني و التخلي عن العراق ومصر _ واليوم مع سقوط السوفيات تجد التوجهات البعثية خصوصا صعوبات جمّة في التأقلم مع الخارطة السياسية الجديدة وهو ما عبرعنه سامي براهم بالقول "إن مستقبل أي تيار سياسي مرتهن بمدى التصاقه بالمحلي وتخلصه من التبعية الخارجية".
القومية ضرورة ملحة اليوم:
يرى كثير من الليبراليين التونسيين أن القومية العربية "خرافة "لم تقدم لتونس أي شيء ولم يعد لها وجود، مستندين إلى ما قاله برهان غليون "الفكرة القومية استوفت أغراضها والتجارب القومية آلت كلها إلى الفشل والنخبة القومية المؤسسة هي جزء من الماضي لم يعد لها وجود. إلاّ أن فطرة المواطن التونسي حسب ما يؤكد علماء الاجتماع في ارتباط عفوي وفطري بالهوية العربية الإسلامية لا ترى نهضتها إلاّ من خلال نهضة الوطن العربي الذي تنتمي إليه. خاصة وأن هذا التيّار له ثقل كبير في تونس نظرا لتصدّيه لمحاولات التغريب كما ان له إرثا فكريا ضاربا في جذور الشعوب العربية على غرار نتاج المفكر المصري محمد حسنين هيكل الذي وصفه الناشط انيس العميري بـ"جوهرة القوميين". وبالتالي فإن هذا التيار مكون أساسي في الخارطة السياسية العربية ولئن تزحزح شئيا عن مكانته فسوف يعود عن طريق المراجعات الذاتية ومحاولات الإصلاح التي شرع فيها بعض المفكرين وبدأ الساسة الشباب في صياغتها من أجل إعادة التموقع والحضور بأكثر قوة لهذا التيار.
0 commentaires:
إرسال تعليق