مختارات من عظمة أخرى لكلب القبيلة|سركون بولص
الكرسي
كرسيّ جدّي ما زالَ يهتزّ على
أسوار أوروك
تحتَـهُ يعبُرُ النهر، يتقـلّبُ فيهِ
الأحياءُ والموتى
الملاك الحجري
حتى ذلك اليوم الذي لن أعودَ فيه
إلى قصدير الأيام المحترقة، والفأس المرفوعة
في يد الريح، أجمعُ نفسي، بكلّ خِرَق الأيام ونكباتها، تحتَ
سقفِ هذا الملاك الحجري.
هذا الحاضرُ المجَنَّح كبيتٍ يشبهُ قلبَ أبي
عندما سحَبتهُ المنيّة من رسغه المقيَّد إلى جناح الملاك
في تـُراب الملكوت.
حتى ذلك اليوم، عندما يصعدُ العالمُ في صوتي
بصهيل ألف حصان، وأرى بوّابة الأرض مفتوحةً أمامي
حتى ذلك اليوم الذي لن أعودَ فيه
مثلَ حصان مُتعَب إلى نفسي، هذا الملاكُ الحجريّ:
سمائي، وسقفي.
إلى سيزار فاييخو
"من بين أسناني أخرجُ داخناً،
صائحاً، دافشاً، نازعاً سراويلي"
سيزار فاييخو، «عجلة الإنسان الجائع»
يا سيزار فاييخو، أنا من يصيح هذه المرّة.
إسمح لي أن أفتح فمي، وأحتجّ على الدم الصاعد في المحرار
دافعاً رايةَ الزئبق إلى الخلف. لتصطكَّ النوافذ، لتنجَرَّ ميتافيزياء الكون
إلى قاع الأحذية الفارغة لجنديّ ماتَ بحَربته المعوجّة.
«عجلةُ الإنسان الجائع» ما زالت تدور…
من يوقفُ العجلة؟
قرأتـُك في أوحَش الليالي، لتنفكّ بينَ يديّ ضماداتُ العائلة.
قرأتُ عواصفكَ المُتململة حيثُ تتناوَمُ الوحوشُ في السراديب
حيثُ المريضُ يتعَكّزُ، على دَرب الآلام، بعَصا الأعمى الذي رأى…
وفي هذا المساء، يا فاييخو، تعلو الأبجديّاتُ وتسقط. المبنى ينهار، والقصيدة
تطفئ نجومها فوق رأس الميّت المكَلـَّـل بالشوك. ثمّة ما سيأتي
ليسحبَ أجسادَنا على مَجراهُ الحجريّ كاندفاعة نَهر.
ثمّة حجر سيجلسُ عليه شاعرُ الأبيض والأسود في هذا الخميس.
واليوم، أنا من يصيح.
يدا القابلة
ومن غير أن نولد، كيفَ نحيا مع الريح
دونَ كفالات: يدُ النوم مُدْلاةٌ على مَهد الوليد حتّى
تأتي الظلال.
الصدى يعرفنا، آتياً من وراء العالم.
تعرفنا خادمةُ اللـّه
هذه التي تمدُّ جسراً بين دُنيانا والآخرة.
الريحُ، والظلُّ، والجسر
وبيوتٌ خشبيّة تترنّحُ قبل مجيء الإعصار.
مَسقط الرأس هذا…
وجهُ الحياة القَلِقُ، حيث ترتعدُ الولادة
ويسقطُ الجنينُ صارخاً بين يديّ أمّ يوسف، القابلة.
من الصُدفة
منَ الصُدفة، من اصطدامها بالوقيعة
أن تنتهي الحكمة مستقيمةً كشاقولٍ بباب الريح
والعَقلُ نَقّارُ أسمالٍ في صندوق زبالة الفيلسوف.
ومن الصُدفة، من انصدافها، أن أكون، أنا
السائرُ بلا هدَفٍ محَدَّد، دائراً هنا كثـَور الطاحون
حولَ محوَرٍ أشبه بالسارية، مرفوعةً، بلا عَلمٍ، وسطَ حياتي.
في الليل وحده أستطيع أن أنادي
من أريدهُ أن يُنادمَني، إلى هذه المأدبة الصغيرة في عَراء أيّامي.
الطينُ، والجلدُ، هنا. طينٌ يغوصُ فيه زُعنفُ تيامات
جلدٌ يَتسلّخُ عن صلعةِ إنليل. أنا المنتظرُ في بيت الخراب
هنا حيث تجتمعُ الغربانُ والبيارقُ السوداء والعماماتُ واللـّحى
في شجرة الأنبياء اليابسة.
هنا ينفتحُ البابُ على شَذرةٍ من عُماي.
أهذا يعني أنّ ناري ما زالت تَلهو بالخشَب؟
أنا كنّاسُ السماء، ومكنستي المضلَّعة، من ريش أوهامي
المختبَرة بالنار، وقشِّ جنوني المُتَذَرّي في كلّ هَبّة من هذه الريح
هل من الممكن أنني أنسيتُها سرَّ القُمامة؟
ينفتحُ الباب، وأرقدُ بكلّ حجمي في قلب الليل المريح مثلَ سرير.
الناجي
قاموسُ الندى، مُعجَمُ الأنداء الساقطة
عبرَ الأفق المجَمَّرِعلى وجهي: أنا قَيلولة ذاتي.
أنا ظهيرةُ أيّامي. أنا لستُ سوى هذه الصفحة المحترقة بنظرتي.
الريحُ وحُنجرتي: أنا من يُنادي بين سارية المستقبل، وراية
الماضي.
أنا العَبدُ. أنا العاجز، بعُكّازينِ تحتَ إبطيَّ أعرجُ نحو المنتهى
يتبعني الموتُ بأرجُلِ عنزةٍ سوداء.
تتبعُ رأسي حربةُ الساحر ذاتُ الرأسين
وأعرفُ أنني، رغمَ هذا، سأنجو لأروي الخبَر على الأحياء.
لحظة الجندي
تلك اللحظة التي أشِكُّ فيها حَربتي الصدئة
جانبيّاً، بلا هِـمّة، في جَنب المسيح
هو الذي يحتقرُ إمبراطوريّتي، وروما، كلَّ روما، بنظرة
أنا الجنديّ التافه الذي قد يذكرهُ التاريخ بكلمة أو كلمتين
لأنهُ أهانَ النبيّ، ألبَسهُ تاجَ شوكه، سَقاهُ خَلاًّ…
أنا الدودةُ الحيّة في تُفّاحة العالم.
تو فو في المنفى
"دُخانُ الحرب أزرق
بيضاءُ عظامُ البشَر".
تو فو
قرية يَصلُ إليها تو فو
دَسكرةٌ فيها نارٌ تكادُ تنطفئ
يَصلُ إليها عارفاً أنّ الكلمة
مثل حصانه النافق، دون حَفنة من البَرسيم
قد لا تبقى مُزهرةً بعدَ كلّ هذه النـَكبات!
كم ساحة معركة
مرّ بها تصفُرُ فيها الريح
عظامُ الفارس فيها اختلطتْ
بعظام حصَانه، والعشبُ سرعانَ ما أخفى البقيّة!
نارٌ تتدفّأ عليها يَدان
بينما الرأس يتدلّى والقلبُ حَطب
هو الذي بدأ بالتـِّيه في العشرين
لم يجد مكاناً يستقرّ فيه حتى النهاية.
حيثما كان، كانت الحربُ وأوزارُها.
ابنتهُ ماتت في مجاعة…
ويُقالُ في الصين إنه كانَ يكتبُ كالآلهة!
قرية أخرى يصلُ إليها تو فو
يتصاعدُ منها دُخانُ المطابخ
وينتظرُ الجياعُ على أبواب مَخبَز.
وجوهُ الخبّازين المتصبّبة عرَقاً، مرايا
تشهدُ على ضَراوة النيران.
تو فو، أنت، أيها السيّد، يا سيّد المنفى.
محمود البريكان واللصوص في البصرة
حَبلُ السُرّة أم حبل المراثي؟
لا مَهرَب: فالأرض ستربطنا إلى خصرها
ولن تترك لنا أن نُفلتَ، مثلَ أُمّ مفجوعة، حتى النهاية.
كلّ يوم من أيامنا، في هذه الأيام، جمعةٌ حزينة!
ويأتيني، في الجُمعةِ هذه، خبَرٌ بأنّ البريكان
ماتَ مطعوناً بخنجر
في البصرة
حيث تكاثرَ اللصوص، وصارَ القـتـَلة
يبحثونَ عن… يبحثون، عَمَّ صارَ يبحثُ القتـَلة؟
حتى هذا الشاعر الوديع لم يَنجُ، هو الذي
كان يعرفُ منذ البداية لونَ القيامة، وهجرةَ الفراشة
نحو متاهة العالم السفلي، حيثُ الليل، واللّـه، واحد.
أكانت هذه معرفتك، هل كان هذا سرّك؟
كنتُ أراك، أنتَ الملفَّع بغشاء سرّك
بين حين وآخر، في مقهى «البرلمان»
حديثنا عن رخمانينوف، عن موتزارت.
واليومُ الذي أتذكّركَ فيه
اليومُ الذي فيهِ بالذاتِ أراك:
كنتَ اشتريت «صُوَر من معرض» لموجورسكي
من «أوروزدي باك »…
واللـّه أعلـَم كم كلّفتكَ تلك الأسطوانة
من راتبك الضئيل!
(سأُسمِعُها، في ذكراكَ، اليومَ، نفسي.)
سأصغي… وها هو الخبَرُ يأتيني.
حبلُ السُرّة انقطع، وامتدّ حبلُ المراثي.
إنه الليل. نـَمْ، أيّها الشاعر. نـَم، أيّها الصديق.
وصلت الرسالة
قُلتَ
أنك تكتب والقنابل تتساقط، تُزيلُ تاريخَ السقوف
تَمحقُ وجهَ البيوت.
قلت
أكتبُ إليك بينما اللّه
يسمحُ لهؤلاء أن يكتبوا مصيري. هذا ما يجعلني أشكُّ في أنه الله.
كتبتَ تقول:
كلماتي، هذه المخلوقات المهدَّدة بالنار.
لولاها، لما كنتُ أحيا.
بعد أن يذهبوا، سأستعيدها
بكلّ بَهائها كأنها سريري الأبيض في ليل البرابرة.
أسهرُ في قصيدتي حتى الفجر، كلَّ ليلة.
قلتَ: أحتاجُ إلى جبَلٍ، إلى محطّة. أحتاجُ إلى بشَرٍ آخرين.
وبعثتَ بالرسالة.
الكمّامة
اليوم أريد أن تصمتَ الريح
كأنّ كمّامة أطبقَت على فَم العالم
الأحياءُ والأمواتُ تفاهموا
على الإرتماء في حضن السكينة.
لأنّ الليل هكذا أراد
لأنّ ربّة الظلام، لأنّ ربَّ الأرْمِـدَة
قرّرَ أنّ آخرَ المطاف هذه المحطّة
حيثُ تجلسُ أرملة وطفلتها على مصطبة الخشب
بانتظار آخر قطار ذاهب إلى الجحيم، في المطـَر.
ــ
قصائد من ديوانه الجديد "عظمة أخرى لكلب القبيلة"
0 commentaires:
إرسال تعليق